فصل: إفضاءٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إفضاءٌ

التعريف

1 - الإفضاء‏:‏ مصدر أفضى، وفضا المكان فضواً‏:‏ إذا اتّسع، وأفضى الرّجل بيده إلى الأرض‏:‏ مسّها بباطن راحته، وأفضى إلى امرأته‏:‏ باشرها وجامعها، وأفضاها‏:‏ جعل مسلكيها بالافتضاض واحداً، وأفضى إلى الشّيء‏:‏ وصل إليه، وأفضى إليه بالسّرّ‏:‏ أعلمه‏.‏

2 - ويطلق الفقهاء الإفضاء، ويريدون به معاني الأوّل‏:‏

الملامسة‏.‏ قال الشّافعيّ رحمه الله‏:‏ الملامسة أن يفضي الرّجل بشيءٍ من جسده إلى جسد المرأة، أو تفضي إليه بشيءٍ منها بلا حائلٍ ‏(‏ر‏:‏ وضوءٌ، ومسٌّ‏)‏‏.‏

الثّاني‏:‏ الجماع‏.‏ ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ‏}‏ فالمراد بالإفضاء الجماع عند بعض الفقهاء‏.‏

الثّالث‏:‏ خلط السّبيلين‏.‏ مثل أن يجامع الرّجل امرأته الصّغيرة الّتي لا تحتمل الجماع، فيصيّر مسلكيها مسلكاً واحداً‏.‏

حكم الإفضاء

3 - الإفضاء بمعنى إفشاء السّرّ، ينظر في مصطلح ‏(‏إفشاء السّرّ‏)‏‏.‏

أمّا الإفضاء بمعنى الملامسة‏.‏ هل هو ناقضٌ للوضوء وموجبٌ للمهر أو لا ‏؟‏ فموطنه مصطلح‏:‏ ‏(‏وضوءٌ، ومهرٌ‏)‏‏.‏

أمّا حكم الإفضاء بمعنى خلط السّبيلين‏:‏ فالمفضي إمّا أن يكون الزّوج أو أجنبيّاً‏.‏

إفضاء الزّوج

4 - إذا وطئ الرّجل زوجته الكبيرة المحتملة للوطء، فأفضاها، لا يجب عليه الضّمان عند أبي حنيفة ومحمّدٍ، وهو رأي الحنابلة، لأنّه وطءٌ مستحقٌّ، فلم يجب ما تلف به كالبكارة، ولأنّه فعلٌ مأذونٌ فيه ممّن يصحّ إذنه، فلم يضمن ما تلف بسرايته، كما لو أذنت في مداواتها بما يفضي إلى ذلك‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يجب الضّمان، كما لو كان في أجنبيّةٍ، وهو رأي المالكيّة والشّافعيّة، غير أنّهم اختلفوا في تقدير الواجب، فقال أبو يوسف‏:‏ إذا أفضاها فاستمسك البول فعليه ثلث ديةٍ، وقال المالكيّة‏:‏ عليه حكومةٌ، وقال الشّافعيّة‏:‏ فيه ديةٌ كاملةٌ‏.‏ وإذا لم يستمسك بولها، ففيها ديةٌ كاملةٌ عند أبي يوسف، وديةٌ وحكومةٌ، أو ديتان عند الشّافعيّة، وعند المالكيّة رأيان‏:‏

الأوّل للمدوّنة فيه حكومةٌ فقط‏.‏

والثّاني لابن القاسم، فيه الدّية‏.‏ وإذا أفضى زوجته الصّغيرة، أو الّتي لا تحتمل الوطء، ففيها الضّمان بالإجماع على ما هو مبيّنٌ عند الفقهاء، وهذا كلّه إذا كان الجماع في المحلّ المشروع‏.‏ وأمّا إذا كان الإفضاء في غيره فإنّه يكون بذلك متعدّياً، فيجب عليه الضّمان إجماعاً على ما سبق، لأنّه استعمالٌ في محلٍّ غير مأذونٍ فيه‏.‏

إفضاء الأجنبيّ

5 - إذا أفضى امرأةً في زنًى فإن كانت مطاوعةً حدّا، ولا غرم عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، لأنّه ضررٌ حصل من فعلٍ مأذونٍ فيه منها، فلم يضمنه، كأرش بكارتها، وقال الشّافعيّة‏:‏ عليه ديةٌ مع الحدّ، لأنّ المأذون فيه الوطء لا الفتق، فأشبه ما لو قطع يدها‏.‏ وإن كانت المرأة مغتصبةً ‏(‏غير مطاوعةٍ‏)‏، فعلى المغتصب الحدّ والضّمان إجماعاً، غير أنّهم اختلفوا في مقداره، فقال الحنفيّة‏:‏ عليه أرش الإفضاء لا العقر، وذهب المالكيّة إلى أنّ فيه الصّداق وحكومة عدلٍ، وذهب الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّ فيه الدّية، وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّ فيه ثلث ديتها ومهر مثلها‏.‏

الإفضاء في نكاحٍ فاسدٍ

6 - إذا وطئ امرأةً بشبهةٍ، أو في نكاحٍ فاسدٍ فأفضاها، فقد نصّ الحنابلة على أنّ عليه أرش إفضائها مع مهر مثلها، لأنّ الفعل إنّما أذن فيه اعتقاداً أنّ المستوفي له هو المستحقّ، فإذا كان غيره ثبت في حقّه وجوب الضّمان لما أتلف، كما لو أذن في أخذ الدّين لمن يعتقد أنّه مستحقّه فبان أنّه غيره‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يجب لها أكثر الأمرين من مهر مثلها أو أرش إفضائها، لأنّ الأرش لإتلاف العضو، فلا يجمع بين ضمانه وضمان منفعته، كما لو قلع عيناً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ فيه الدّية، لأنّه إتلافٌ، ولم يفرّقوا بين النّكاح الصّحيح والفاسد‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجب حكومة عدلٍ للإتلاف والإفضاء زيادةً على المهر‏.‏

إفطارٌ

التعريف

1 - الإفطار لغةً‏:‏ مصدر أفطر‏:‏ يقال‏:‏ أفطر الصّائم‏:‏ دخل في وقت الفطر وكان له أن يفطر، ومن ذلك حديث‏:‏ «إذا أقبل اللّيل من هاهنا، وأدبر النّهار من هاهنا، وغربت الشّمس، فقد أفطر الصّائم»‏.‏ والإفطار في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - الأصل في الإفطار بالنّسبة لمن وجب عليه الصّوم الحرمة، إذ الصّوم معناه الإمساك عن كلّ ما يفطر‏.‏ أمّا بالنّسبة لصوم رمضان فظاهرٌ، وأمّا بالنّسبة للصّوم الواجب بالنّذر فكذلك، لأنّه يسلك بالنّذر مسلك الواجب بالشّرع‏.‏

وقد يعرض له الوجوب، لوجود مانعٍ من الصّوم، سواءٌ أكان المانع من ناحية الشّخص، كالمرض، المؤدّي للهلاك، وكالحائض والنّفساء، أم كان المانع من ناحية الأيّام الّتي نهي عن الصّيام فيها كيومي العيد‏.‏

3 - وقد يكون الفطر مكروهاً‏:‏

كالمسافر الّذي تحقّقت له شرائط السّفر، فإنّه يجوز له الفطر مع الكراهة عند المالكيّة، إذ الصّوم أفضل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تصوموا خيرٌ لكم‏}‏‏.‏ وكإفطار من شرع في صوم النّفل إن كان بغير عذرٍ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبطلوا أعمالكم‏}‏‏.‏ وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه‏.‏

4 - وقد يكون مندوباً‏:‏

كما لو كان هناك عذرٌ، كمساعدة ضيفٍ في الأكل إذا عزّ عليه امتناع مضيفه منه أو عكسه، فلا يكره الإفطار بل يستحبّ، لحديث «وإنّ لزورك عليك حقّاً» وحديث‏:‏ «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه»‏.‏

أمّا إذا لم يعزّ على أحدهما امتناع الآخر عن ذلك، فالأفضل عدم خروجه منه‏.‏

5 - وقد يكون مباحاً‏:‏

كالمريض الّذي لا يخشى الهلاك، ولكنّه يخشى زيادة المرض، وكالحامل الّتي تخاف ضرراً يسيراً على حملها أو نفسها‏.‏ ومن المباح عند الجمهور الصّيام في السّفر على خلاف الأفضليّة بناءً على اعتباره رخصةً أو عزيمةً‏.‏

أثر الإفطار

أ - في قطع الصّوم المتتابع

6 - من أفطر بغير عذرٍ في نهار صومٍ واجبٍ يجب فيه التّتابع، كصومٍ عن كفّارة ظهارٍ أو قتلٍ، انقطع تتابعه ووجب استئنافه، فإن كان لعذرٍ فلا ينقطع تتابعه ويبني على ما سبق‏.‏ وهذا في الجملة‏.‏

وللفقهاء تفصيلٌ فيما يعتبر عذراً لا يقطع التّتابع وما لا يعتبر ‏(‏ر‏:‏ صومٌ - كفّارةٌ‏)‏‏.‏

ب - في ترتّب القضاء وغيره

7 - يجب القضاء على من أفطر في صيامٍ واجبٍ وهذا باتّفاقٍ‏.‏ وفي صيام التّطوّع خلافٌ‏.‏ وقد يكون مع القضاء فديةٌ أو كفّارةٌ‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ ينظر في موضعه‏.‏

إفكٌ

التعريف

1 - الإفك‏:‏ لغةً‏:‏ الكذب‏.‏ ويستعمله الفقهاء في باب القذف بمعنى الكذب، وفي الألوسيّ وغيره، الإفك‏:‏ أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وكثيراً ما يفسّر بالكذب مطلقاً‏.‏ وقيل هو البهتان لا تشعر به حتّى يفجأك، وأصله من الأفك ‏(‏بفتحٍ فسكونٍ‏)‏ وهو القلب والصّرف، لأنّ الكذب مصروفٌ عن الوجه الحقّ‏.‏

وقد قال المفسّرون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الّذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم‏}‏ إنّ المراد ما افتري على عائشة رضي الله عنها، فتكون ‏(‏أل‏)‏ في ‏"‏ الإفك ‏"‏ للعهد، وجوّز بعضهم حمل ‏(‏أل‏)‏ على الجنس، قيل فيفيد القصر‏:‏ كأنّه لا إفك إلاّ ذلك الإفك، وفي لفظ ‏(‏المجيء‏)‏ إشارةٌ إلى أنّهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصلٌ‏.‏ وقد ورد في سورة النّور - الآية 11 فما بعدها - ذكر حادثة الإفك، وتشريف اللّه تعالى لعائشة، وتبرئتها بالوحي‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - الإفك حرامٌ، فيه يصوّر الحقّ بصورة الباطل، ولا يخرج في عقوبته عن عقوبة الكذب، وفيه التّعزير، إلاّ أن يكون قذفاً بالمفهوم الشّرعيّ، وهو ما كان موضوعه الاتّهام كذباً بالفاحشة، فيكون فيه الحدّ‏.‏ وتفصيله في ‏(‏القذف‏)‏‏.‏

إفلاسٌ

التعريف

1 - الإفلاس مصدر أفلس، وهو لازمٌ، يقال‏:‏ أفلس الرّجل إذا صار ذا فلوسٍ بعد أن كان ذا ذهبٍ وفضّةٍ، أو صار إلى حالٍ ليس له فلوسٌ‏.‏ والفلس اسم المصدر، بمعنى الإفلاس‏.‏ والإفلاس في الاصطلاح‏:‏ أن يكون الدّين الّذي على الرّجل أكثر من ماله، وسواءٌ أكان غير ذي مالٍ أصلاً، أم كان له مالٌ إلاّ أنّه أقلّ من دينه‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وإنّما سمّي من غلب دينه ماله مفلساً وإن كان له مالٌ، لأنّ ماله مستحقّ الصّرف في جهة دينه، فكأنّه معدومٌ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّفليس

2 - التّفليس هو‏:‏ مصدر فلّست الرّجل، إذا نسبته إلى الإفلاس‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ جعل الحاكم المدين مفلساً بمنعه من التّصرّف في ماله‏.‏ وهذا ما صرّح به الحنفيّة والشّافعيّة عندما عرّفوا التّفليس بالمعنى الأخصّ‏.‏ والعلاقة بين التّفليس والإفلاس‏:‏ أنّ الإفلاس أثر التّفليس في الجملة‏.‏ وجرى المالكيّة على أنّ التّفليس يطلق على ما قبل الحجر بعد قيام الغرماء على المدين، قالوا‏:‏ ويقال حينئذٍ‏:‏ إنّه تفليسٌ بالمعنى الأعمّ، ويطلق على ما بعد الحجر عليه بحكم الحاكم، ويكون حينئذٍ تفليساً بالمعنى الأخصّ‏.‏

ب - الإعسار

3 - الإعسار في اللّغة‏:‏ مصدر أعسر، وهو ضدّ اليسار‏.‏ والعسر‏:‏ اسم مصدرٍ، وهو الضّيق والشّدّة والصّعوبة‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ عدم القدرة على النّفقة بمالٍ ولا كسبٍ‏.‏ فبين الإعسار والإفلاس عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ، فكلّ مفلسٍ معسرٌ، ولا عكس‏.‏

ج - الحجر

4 - الحجر لغةً‏:‏ المنع مطلقاً، وشرعاً‏:‏ منع نفاذ تصرّفٍ قوليٍّ‏.‏ وهو أعمّ من التّفليس من حيث الأثر، إذ يشمل منع الصّبيّ والسّفيه والمجنون ومن في حكمهم من التّصرّف في المال‏.‏

حكم الإفلاس

5 - لمّا كان الإفلاس صفةً للشّخص لا فعلاً له لم يوصف بحلٍّ ولا حرمةٍ، ولكن للإفلاس مقدّماتٌ هي من فعل المكلّف، كالاستدانة، وهذه قد ترد عليها الأحكام التّكليفيّة، ويرجع في ذلك إلى مصطلح ‏(‏استدانةٌ‏)‏‏.‏

وقد يكون سبب الإفلاس الإعسار، وله أحكامٌ وضعيّةٌ ‏(‏آثارٌ‏)‏ مفصّلةٌ في مصطلح ‏(‏إعسارٌ‏)‏، وأمّا الإفلاس من حيث إنّه أثرٌ للتّفليس، فإنّه يناسب هنا الكلام على أحكام التّفليس‏.‏

الحكم التّكليفيّ للتّفليس

6 - إذا أحاط الدّين بمال المدين، وطلب الغرماء الحجر عليه، وجب على الحاكم تفليسه عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وصاحبي أبي حنيفة، وهو المفتى به عند الحنفيّة‏.‏ واشترط المالكيّة لوجوب ذلك ألاّ يمكن للغرماء الوصول إلى حقّهم إلاّ به‏.‏ أمّا إذا أمكن الوصول إلى حقّهم بغير ذلك كبيع بعض ماله، فإنّه لا يصار إلى التّفليس‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يفلّس، لأنّه كامل الأهليّة، وفي الحجر عليه إهدارٌ لآدميّته‏.‏ واستدلّ القائلون بتفليسه‏:‏ بأنّ الكلّ مجمعٌ على الحجر على المريض مرض الموت فيما زاد على الثّلث لحقّ الورثة، فلأن يحجر عليه ويمنع من التّصرّف في أمواله لحقّ الغرماء أولى‏.‏ وممّا يتّصل بهذا الموضوع‏:‏ أنّه هل يجوز للحاكم أن يبيع ماله جبراً عليه أو لا ‏؟‏ ذهب الجمهور إلى جواز ذلك مستدلّين بحديث معاذٍ‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجر عليه، وباع ماله في دينٍ كان عليه، وقسمه بين غرمائه …» وكذلك أثر أسيفعٍ‏:‏ أنّه كان يشتري الرّواحل، فيغالي بها، ثمّ يسرع في السّير فيسبق الحاجّ، فأفلس، فرفع أمره إلى عمر بن الخطّاب فقال‏:‏ ‏(‏أمّا بعد‏:‏ أيّها النّاس فإنّ الأسيفع أسفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال‏:‏ سبق الحاجّ، إلاّ أنّه قد أدان مغرضاً، فأصبح وقد رين به، فمن كان له دينٌ فليأتنا بالغداة نقسم ماله بين غرمائه، وإيّاكم والدّين …‏)‏

ولأنّه محجورٌ عليه محتاجٌ إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله بغير رضاه، كالصّغير والمجنون‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يباع ماله جبراً عنه، لأنّه لا ولاية عليه في ماله، إلاّ أنّ الحاكم يجبره على البيع إذا لم يمكن الإيفاء بدون إجبارٍ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم‏}‏‏.‏

واستثنى أبو حنيفة من ذلك أنّه إذا كان دينه دراهم، وفي المال دراهم، دفعت للغريم جبراً‏.‏ وكذلك إن كان دينه دنانير وفي المال دنانير، دفعت للدّائنين جبراً‏.‏ وكذلك إذا كان عليه أحد النّقدين وفي ماله النّقد الآخر، لأنّهما كجنسٍ واحدٍ‏.‏ واستدلّ لذلك بأنّ الغريم إذا ظفر بمثل دينه أخذه جبراً، فالحاكم أولى، وهذا الاستثناء عنده من قبيل الاستحسان‏.‏ وممّا يتّصل بهذا أنّ المدين المستغرق بالدّين، يحرم عليه ديانةً كلّ تصرّفٍ يضرّ بالدّائنين، كما يحرم على الآخرين أن يتعاملوا معه بما يضرّ بدائنيه متى علموا‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏استدانةٌ‏)‏‏.‏

شرائط الحجر على المفلس

الشّريطة الأولى

7 - يشترط للحجر على المفلس عند كلّ من أجازه أن يطلب الغرماء أو من ينوب عنهم أو يخلفهم الحجر عليه‏.‏ فلو طالبوا بديونهم ولم يطلبوا الحجر لم يحجر عليه‏.‏

ولا يشترط أن يطلبه جميع الغرماء، بل لو طلبه واحدٌ منهم لزم، وإن أبى بقيّة الغرماء ذلك أو سكتوا، أو طلبوا تركه ليسعى‏.‏ وإذا فلّس لطلب بعضهم كان للباقين المحاصّة‏.‏

ولو طلب المدين تفليس نفسه والحجر عليه لم يجبه الحاكم إلى ذلك من غير طلب الغرماء‏.‏ وهذا عند المالكيّة والحنابلة، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏ والأصحّ عندهم يحجر على المدين بسؤاله أو سؤال وكيله، قيل‏:‏ وجوباً، وقيل‏:‏ جوازاً‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ له غرضاً ظاهراً في ذلك، وهو صرف ماله إلى ديونه‏.‏

ووجه الأوّل أنّ الحجر ينافي الحرّيّة والرّشد، وإنّما حجر بطلب الغرماء للضّرورة، وأنّهم لا يتمكّنون من تحصيل مقصودهم إلاّ بالحجر، خشية الضّياع، بخلاف المدين فإنّ غرضه الوفاء، وهو متمكّنٌ منه ببيع أمواله وقسمتها على غرمائه‏.‏ وجعل بعضهم من الحجر بطلب المدين«حجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم على معاذٍ»‏.‏ قالوا‏:‏ الأصوب أنّه كان بسؤال معاذٍ نفسه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ ولو كان الدّين لقاصرٍ، ولم يسأل وليّه الحجر، وجب على الحاكم الحجر من غير سؤالٍ، لأنّه ناظرٌ لمصلحته‏.‏ ومثله عندهم ما لو كانت الدّيون لمسجدٍ، أو جهةٍ عامّةٍ كالفقراء‏.‏ وقال الشّافعيّة أيضاً في حالة ما إذا طلب بعض الدّائنين الحجر دون بعضٍ‏:‏ يشترط أن يكون دين الطّالب أكثر من مال المدين، وإلاّ فلا حجر، لأنّ دينه يمكن وفاؤه بكماله‏.‏ وهذا هو المعتمد عندهم، وفي قولٍ‏:‏ يعتبر أن يزيد دين الجميع على ماله، لا دين طالب الحجر فقط‏.‏

الشّريطة الثّانية

8 - يشترط أن يكون الدّين الّذي طلب ربّه الحجر على المدين بسببه ديناً حالاًّ، سواءٌ أكان حالاًّ أصالةً، أم حلّ بانتهاء أجله، فلا حجر بالدّين المؤجّل، لأنّه لا يطالب به في الحال، ولو طولب به لم يلزمه الأداء‏.‏

الشّريطة الثّالثة

9 - يشترط أن تكون الدّيون على المفلس أكثر من ماله‏.‏ وعلى هذا فلا يفلّس بدينٍ مساوٍ لماله، وهو قول المالكيّة، ويفهم أيضاً من كلام الحنابلة، وقال المالكيّة‏:‏ ولو لم يزد دينه الحالّ على ماله لكن بقي من مال المدين مالاً يفي بالمؤجّل يفلّس أيضاً، كمن عليه مائتان‏.‏ مائةٌ حالّةٌ ومائةٌ مؤجّلةٌ، ومعه مائةٌ وخمسون فقط، فيفلّس، إلاّ إن كان يرجى من تنميته للفضلة - وهي خمسون في مثالنا - وفاء المؤجّل‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن كانت ديونه بقدر ماله، فإن كان كسوباً ينفق من كسبه فلا حجر لعدم الحاجة، وإن لم يكن كسوباً، وكانت نفقته من ماله، فيحجر عليه كي لا يضيّع ماله في نفقته على قولٍ عندهم‏.‏ والأصحّ عندهم‏:‏ أنّه لا حجر في هذه الحال أيضاً، لتمكّن الغرماء من المطالبة في الحال‏.‏

الشّريطة الرّابعة

10 - الدّين الّذي يحجر به هو دين الآدميّين‏.‏ أمّا دين اللّه تعالى فلا يحجر به‏.‏ نصّ على ذلك الشّافعيّة‏.‏ قالوا‏:‏ ولو فوريّاً، كنذرٍ، وإن كان مستحقّوه محصورين، وكالزّكاة إذا حال الحول وحضر المستحقّون‏.‏

الشّريطة الخامسة

11 - يشترط أن يكون الدّين المحجور به لازماً، فلا حجر بالثّمن في مدّة الخيار، نصّ على ذلك الشّافعيّة‏.‏

الحجر على المدين الغائب

12 - يصحّ عند الحنفيّة على قول الصّاحبين الحجر على المدين الغائب، ولكن يشترط علم المحجور عليه بعد الحجر، حتّى إنّ كلّ تصرّفٍ باشره بعد الحجر قبل العلم به يكون صحيحاً عندهم‏.‏

وإن ثبت الدّين بإقراره، أو ببيّنةٍ قامت عليه عند القاضي، فغاب المطلوب قبل الحكم وامتنع من الحضور، قال أبو يوسف‏:‏ ينصب القاضي وكيلاً، ويحكم عليه بالمال، إن سأل الخصم ذلك، وإن سأل الخصم أن يحجر عليه، فعند أبي حنيفة ومحمّدٍ لا يحكم ولا يحجر حتّى يحضر الغائب، ثمّ يحكم عليه، ثمّ يحجر عليه عند محمّدٍ، لأنّه إنّما يحجر بعد الحكم لا قبله‏.‏ كذا في الذّخيرة‏.‏ وفي النّوادر عن محمّدٍ‏:‏ إن كانوا قد أثبتوا ديونهم يحجر عليه‏.‏ ويصحّ الحجر على الغائب كذلك عند المالكيّة، إن كانت غيبته متوسّطةً كعشرة أيّامٍ، أو طويلةً كشهرٍ مثلاً، أمّا الغائب الغيبة القريبة ففي حكم الحاضر‏.‏

واشترطوا للحجر على الغائب ألاّ يتقدّم العلم بملاءته قبل سفره‏.‏ فإن علم ملاءته قبل سفره استصحب ذلك ولم يفلّس‏.‏‏.‏ وعند ابن رشدٍ يفلّس في الغيبة الطّويلة، وإن علم ملاءته حال خروجه‏.‏ ولم نجد للشّافعيّة والحنابلة كلاماً عن هذه المسألة فيما اطّلعنا عليه‏.‏

من يحجر على المفلس

13 - لا يكون المفلس محجوراً عليه إلاّ بحجر القاضي عليه‏.‏ والحجر للقاضي دون غيره، لاحتياجه إلى نظرٍ واجتهادٍ‏.‏ هذا وإنّ لقيام الغرماء على المدين الّذي أحاط الدّين بماله بعض أحكام التّفليس عند المالكيّة، ويسمّى هذا عند المالكيّة تفليساً عامّاً، وهو أن يقوم الغرماء على من أحاط الدّين بماله - وقبل أن يحجر عليه الحاكم - فيسجنوه، أو يقوموا عليه فيستتر عنهم فلا يجدونه، ويحولون بينه وبين التّصرّف في ماله بالبيع والشّراء والأخذ والإعطاء، هذا بالإضافة إلى منع تبرّعه، ومنعهم لسفره، كما في كلّ مدينٍ بدينٍ حالٍّ أو يحلّ في الغيبة، وليس لهم في هذه الحال منعه من تزوّجٍ واحدةٍ، وتردّدوا في حجّ الفريضة، والفتوى عندهم على أنّ لهم منعه منه‏.‏ ونقل ابن رجبٍ الحنبليّ في قواعده أنّ ابن تيميّة كان لا يرى نفاذ تبرّع المدين بالدّين المستغرق بعد المطالبة‏.‏

ونقل عن الإمام أحمد أنّ تصرّفه بالعين الّتي له حقّ الرّجوع فيها على المحجور عليه لا ينفذ إن طالبه بها صاحبها، ولو قبل الحجر‏.‏

وأمّا عند سائر الفقهاء فإنّ المفلس قبل الحجر عليه كغير المفلس، وما يفعله من بيعٍ أو هبةٍ أو إقرارٍ أو قضاء بعض الغرماء دون بعضٍ فهو جائزٌ نافذٌ، لأنّه رشيدٌ غير محجورٍ عليه، فنفذ تصرّفه كغيره‏.‏ ونصّ شارح المنتهى من الحنابلة على أنّه يحرم عليه التّصرّف في ماله بما يضرّ غريمه‏.‏ وصيغة الحجر أن يقول الحاكم‏:‏ منعتك من التّصرّف، أو حجرت عليك للفلس‏.‏ ويقتضي كلام الجمهور التّخيير بين الصّيغتين، ونحوهما - كفلّستك - من كلّ ما يفيد معنى الحجر‏.‏

الإثبات

14 - لا حجر بالدّين إلاّ إن ثبت لدى القاضي بطريقٍ من طرق الإثبات الشّرعيّة ‏(‏ر‏:‏ إثباتٌ‏)‏‏.‏

إشهار الحجر بالإفلاس والإشهاد عليه

15 - الّذين قالوا بمشروعيّة الحجر على المفلس قالوا‏:‏ يستحبّ إظهار الحجر عليه وإشهاره لتجتنب معاملته، كي لا يستضرّ النّاس بضياع أموالهم‏.‏

وقال الحنفيّة - على رأي الصّاحبين - والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ ويسنّ الإشهاد عليه لينتشر ذلك عنه، ولأنّه ربّما عزل الحاكم أو مات، فيثبت الحجر عند الآخر فيمضيه، ولا يحتاج إلى ابتداء حجرٍ ثانٍ‏.‏ ولأنّ الحجر تتعلّق به أحكامٌ، وربّما يقع التّجاحد فيحتاج إلى إثباته‏.‏ ولم يتعرّض المالكيّة لذلك فيما اطّلعنا عليه من كلامهم‏.‏

آثار الحجر على المفلس

16 - إذا حجر القاضي على المفلس، تعلّق بذلك من الآثار ما يلي‏:‏

أ - تتعلّق حقوق الغرماء بماله، ويمنع من الإقرار على ذلك المال والتّصرّف فيه‏.‏

ب - انقطاع الطّلب عنه بدينٍ جديدٍ بعد الحكم بالإفلاس‏.‏

ج - حلول الدّين المؤجّل في ذمّة المدين‏.‏

د - استحقاق من وجد عين ماله عند المدين استرجاعه‏.‏

هـ-استحقاق بيع مال المفلّس وقسمه بين الغرماء‏.‏

وفيما يلي تفصيل القول في هذه الآثار‏.‏

الأوّل تعلّق حقّ الغرماء بالمال

17 - بالحجر يتعلّق حقّ الغرماء بالمال، نظير تعلّق حقّ الرّاهن بالمال المرهون، فلا ينفذ تصرّف المحجور عليه في ذلك المال بما يضرّهم، ولا ينفذ إقراره عليه‏.‏ والمال الّذي يتعلّق به حقّ الغرماء هو مال المدين الّذي يملكه حال الحجر اتّفاقاً عند من يقول بجواز تفليس المدين‏.‏ وأمّا ما يحدث له بعد ذلك فلا يشمله الحجر عند صاحبي أبي حنيفة - رحمهم الله - والمالكيّة، وعلى قولٍ عند الشّافعيّة - هو مقابل الأصحّ عندهم - قالوا‏:‏ كما لا يتعدّى حجر الرّاهن على نفسه في العين المرهونة إلى غيرها‏.‏

والأصحّ عند الشّافعيّة ومذهب الحنابلة‏:‏ يشمله الحجر كذلك ما دام الحجر قائماً، نحو ما ملكه بإرثٍ، أو هبةٍ أو اصطيادٍ أو صدقةٍ أو ديةٍ أو وصيّةٍ، قال الشّافعيّة‏:‏ أو شراءٍ في الذّمّة‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ مقصود الحجر وصول الحقوق إلى أهلها، وذلك لا يختصّ بالموجود‏.‏ فعلى قول الحنفيّة والمالكيّة يتصرّف المحجور عليه لفلسٍ فيما تجدّد له بعد الحجر من المال، سواءٌ كان عن أصلٍ، كربح مالٍ تركه بيده بعض من فلّسه، أو عن معاملةٍ جديدةٍ، أو عن غير أصلٍ كميراثٍ وهبةٍ ووصيّةٍ‏.‏

ولا يمنع من ذلك التّصرّف إلاّ بحجرٍ جديدٍ على ما صرّح به المالكيّة‏.‏

الإقرار

18 - على قول الحنفيّة والحنابلة - وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة - لا يقبل على الغرماء إقرار المفلّس بشيءٍ من ماله الّذي حجر عليه فيه، لاحتمال التّواطؤ بين المفلّس ومن أقرّ له، ويلزمه ما أقرّ به بعد فكّ الحجر عنه‏.‏

والأظهر عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه يقبل في حقّ الغرماء، إن أسند وجوبه إلى ما قبل الحجر عليه أو أطلق، لا إن أضافه إلى ما بعد الحجر‏.‏ وعند المالكيّة تفصيلٌ، قالوا‏:‏ يقبل إقراره على غرمائه إن أقرّ بالمجلس الّذي حجر عليه فيه، أو قريباً منه، إن كان دينه الّذي حجر عليه به ثبت بالإقرار، أو علم تقدّم المعاملة بينهما‏.‏ أمّا في غير ذلك إن ثبت بالبيّنة، فلا يقبل إمراره عليه لغيرهم‏.‏

تصرّفات المفلّس في المال

19 - تصرّفات المفلّس ثلاثة أنواعٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ تصرّفاتٌ نافعةٌ للغرماء، كقبوله الهبة والصّدقة، فهذه لا يمنع منها‏.‏

الثّاني‏:‏ تصرّفاتٌ ضارّةٌ، كهبته لماله، ووقفه له، وتصدّقه به، والإبراء منه، وسائر التّبرّعات، فهذه يؤثّر فيها الحجر عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وعلى الأظهر عند الشّافعيّة‏.‏ والقول الثّاني عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ التّصرّف يقع موقوفاً، فإن فضل ذلك عن الدّين نفذ وإلاّ لغا‏.‏ ومن أجل ذلك قال الحنابلة‏:‏ لا يكفّر المفلّس بغير الصّوم، لئلاّ يضرّ بالغرماء‏.‏ ويستثنى من هذا النّوع التّصرّف بعد الموت، كما لو أوصى بمالٍ‏.‏ وإنّما صحّ هذا لأنّ الوصيّة تخرج من الثّلث بعد حقّ الدّائنين‏.‏ واستثنى الحنابلة أيضاً تصرّفه بالصّدقة اليسيرة‏.‏ الثّالث‏:‏ تصرّفاتٌ دائرةٌ بين النّفع والضّرّ، كالبيوع والإجارة‏.‏ والأصل في هذا النّوع أنّه باطلٌ على قول بعض الفقهاء، منهم الحنابلة والشّافعيّة في الأظهر، وابن عبد السّلام من المالكيّة‏.‏

ومذهب المالكيّة‏:‏ أنّه يمنع من التّصرّف المذكور، فإن أوقعه وقع موقوفاً على نظر الحاكم إن اختلف الغرماء، وعلى نظرهم إن اتّفقوا، ومذهب الحنفيّة على قول الصّاحبين أنّ للمفلّس أن يبيع ماله بثمنٍ مثله، لأنّه لا يبطل حقّ الغرماء، وإن باع بالغبن لا يصحّ منه، سواءٌ أكان الغبن يسيراً أم فاحشاً، ويخيّر المشتري بين إزالة الغبن وبين الفسخ‏.‏

ولو باع بعض ماله لغريمه بدينه، فقال الحنابلة‏:‏ لا يصحّ، لأنّه محجورٌ عليه‏.‏ وقال الشّافعيّة في الأصحّ عندهم‏:‏ لا يصحّ إلاّ بإذن القاضي، لأنّ الحجر يثبت على العموم، ومن الجائز أن يظهر له غريمٌ آخر‏.‏ ومقابله عند الشّافعيّة‏:‏ يصحّ، ولو بغير إذن القاضي، لأنّ الأصل عدم الغريم الآخر‏.‏ لكن لا يصحّ إلاّ بشرط أن يكون البيع للغرماء جميعهم بلفظٍ واحدٍ، وأن يكون دينهم من نوعٍ واحدٍ‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن باع ماله من الغريم، وجعل الدّين بالثّمن على سبيل المقاصّة صحّ إن كان الغريم واحداً‏.‏ وإن كان الغريم أكثر من واحدٍ، فباع ماله من أحدهم بمثل قيمته يصحّ، كما لو باع من أجنبيٍّ بمثل قيمته، ولكنّ المقاصّة لا تصحّ، كما لو قضى دين بعض الغرماء دون بعضٍ‏.‏ ولم نجد المالكيّة تعرّضوا لهذه المسألة بخصوصها، فيظهر أنّها عندهم أيضاً موقوفةٌ على نظر القاضي أو الغرماء كما تقدّم‏.‏

التّصرّف في الذّمّة من المحجور عليه لفلسٍ

20 - لو تصرّف المحجور عليه لفلسٍ تصرّفاً في ذمّته بشراءٍ أو بيعٍ أو كراءٍ صحّ، نصّ على ذلك المالكيّة، والشّافعيّة على الصّحيح عندهم، والحنابلة، وهو مقتضى مذهب الصّاحبين، لأهليّته للتّصرّف، والحجر يتعلّق بماله لا بذمّته، ولأنّه لا ضرر فيه على الغرماء، ويتبع به بعد فكّ الحجر عنه‏.‏

إمضاء التّصرّفات السّابقة على الحجر أو إلغاؤها

21 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ للمفلّس بعد الحجر عليه إمضاء خيارٍ، وفسخٌ لعيبٍ فيما اشتراه قبل الحجر، لأنّه إتمامٌ لتصرّفٍ سابقٍ على حجره فلم يمنع منه، كاسترداد وديعةٍ أودعها قبل الحجر عليه، وسواءٌ أكان في ذلك الإمضاء أو الفسخ حظٌّ للمفلّس أو لم يكن‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ ينتقل الخيار للحاكم أو للغرماء، فلهم الرّدّ أو الإمضاء‏.‏

وصرّح الحنفيّة بأنّ البيع، إن كان بمثل القيمة جاز من المحجور عليه، فيؤخذ منه مراعاةً لحظّ الغرماء في الفسخ أو الإمضاء‏.‏

حكم ما يلزم المفلّس من الحقوق في مدّة الحجر

22 - ما لزم المفلّس من ديةٍ أو أرش جنايةٍ زاحم مستحقّها الغرماء، وكذا كلّ حقٍّ لزمه بغير رضى الغريم واختياره، كضمان إتلاف المال، لانتفاء تقصيره‏.‏ بخلاف التّصرّفات الّتي تقدّم ذكر المنع منها، فإنّها تكون برضا الغريم واختياره‏.‏ قال الشّافعيّة على الأصحّ عندهم‏:‏ ولو أقرّ المفلّس بجنايةٍ قبل إقراره على الغرماء، سواءٌ أسند المفلّس سبب الحقّ إلى ما قبل الحجر أو إلى ما بعده‏.‏

وجعل من ذلك صاحب المغني أنّه لو أفلس، وله دارٌ مستأجرةٌ فانهدمت، بعدما قبض المفلّس الأجرة، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدّة، وسقط من الأجرة بقدر ذلك‏.‏ ثمّ إن وجد عين ما له أخذ بقدر ذلك، وإن لم يجده شارك الغرماء بقدره‏.‏

الأثر الثّاني - انقطاع المطالبة عنه

23 - وذلك لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏ وقول النّبيّ لغرماء معاذٍ‏:‏ «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلاّ ذلك» وفي روايةٍ «ولا سبيل لكم عليه» فمن أقرضه شيئاً أو باعه شيئاً عالماً بحجره لم يملك مطالبته ببدله حتّى ينفكّ الحجر عنه، لتعلّق حقّ الغرماء حالة الحجر بعين مال المفلّس، ولأنّه هو المتلف لماله بمعاملة من لا شيء معه، لكن إن وجد المقرض أو البائع أعيان ما لهما فلهما أخذها كما سبق، إن لم يعلما بالحجر‏.‏

الأثر الثّالث - حلول الدّين المؤجّل

24 - في حلول الدّيون الّتي على المفلّس بالحجر عليه قولان للفقهاء‏:‏

الأوّل وهو قول المالكيّة المشهور عندهم، وقولٌ للشّافعيّ هو خلاف الأظهر عند أصحابه، وروايةً عن أحمد‏:‏ أنّ الدّيون المؤجّلة الّتي على المفلّس تحلّ بتفليسه‏.‏ قال المالكيّة‏:‏ ما لم يكن المدين قد اشترط عدم حلولها بالتّفليس‏.‏ واحتجّ أصحاب هذا القول‏:‏ بأنّ التّفليس يتعلّق به الدّين بالمال، فيسقط الأجل، كالموت‏.‏ قال المالكيّة‏:‏ ولو طلب الدّائن بقاء دينه مؤجّلاً لم يجب لذلك‏.‏

والثّاني، وهو قول الحنفيّة، والشّافعيّ وهو الأظهر عند أصحابه، وروايةً عن أحمد هي الّتي اقتصر عليها في الإقناع‏:‏ لا يحلّ الأجل بالتّفليس‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ الأجل حقٌّ للمفلّس، فلا يسقط بفلسه، كسائر حقوقه، ولأنّه لا يوجب حلول ما له، فلا يوجب حلول ما عليه، كالجنون والإغماء، وليس هو كالموت، فإنّ الموت تخرب به الذّمّة، بخلاف التّفليس‏.‏ فعلى هذا القول‏:‏ لا يشارك أصحاب الدّيون المؤجّلة أصحاب الدّيون الحالّة، إلاّ إن حلّ المؤجّل قبل قسمة المال فيحاصّهم‏.‏ أو قبل قسمة بعضه فيشاركهم الدّائن في ذلك البعض‏.‏ قال الرّمليّ من الشّافعيّة، وصاحب الإقناع من الحنابلة‏:‏ وإذا بيعت أموال المفلّس لم يدّخر منها شيءٌ للمؤجّل‏.‏ ولا يرجع ربّ الدّين المؤجّل على الغرماء إذا حلّ دينه بشيءٍ، لأنّه لم يستحقّ مشاركتهم حال القسمة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يرجع عليهم فيما قبضوا بالحصص‏.‏ أمّا على القول الأوّل‏:‏ فيشارك أصحاب الدّيون المؤجّلة أصحاب الدّيون الحالّة في مال المفلّس‏.‏ أمّا ديون المفلّس على النّاس فلا تحلّ بفلسه إذا كانت مؤجّلةً، لا يعلم في ذلك خلافٌ‏.‏

الأثر الرّابع مدى استحقاق الغريم أخذ عين ماله إن وجدها

إذا أوقع الحجر على المفلّس، فوجد أحد أصحاب الدّيون عين ماله الّتي باعها للمفلّس وأقبضها له، ففي أحقّيّته باسترجاعها قولان للعلماء‏:‏

25 - القول الأوّل‏:‏ أنّ بائعها أحقّ بها بشروطه، وهو قول مالكٍ والشّافعيّ وأحمد والأوزاعيّ والعنبريّ وإسحاق وأبي ثورٍ وابن المنذر، وروي هذا القول عن بعض الصّحابة، منهم عثمان وعليٌّ رضي الله عنهما، وعن عروة بن الزّبير من التّابعين‏.‏ واحتجّ أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع «من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس فهو أحقّ به من غيره»‏.‏

واحتجّوا أيضاً بأنّ هذا عقدٌ يلحقه الفسخ بالإقالة، فجاز فيه الفسخ لتعذّر العوض، كالمسلم فيه إذا تعذّر، وبأنّه لو شرط في العقد رهناً، فعجز عن تسليمه، استحقّ الفسخ، وهو وثيقةٌ بالثّمن، فالعجز عن تسليم الثّمن نفسه أولى‏.‏

26 - القول الثّاني‏:‏ قول أبي حنيفة وأهل الكوفة وقول ابن سيرين وإبراهيم من التّابعين وابن شبرمة‏.‏ وروي عن عليٍّ رضي الله عنه‏:‏‏"‏ أنّه ليس أحقّ بها، بل هو في ثمنها أسوة الغرماء ‏"‏‏.‏ واحتجّوا بأنّ هذا مقتضى الأصول اليقينيّة المقطوع بها، قالوا‏:‏ وخبر الواحد إذا خالف الأصول يردّ،

كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏‏"‏ لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا لحديث امرأةٍ ‏"‏‏.‏

قالوا‏:‏ ولما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً‏:‏ «أيّما رجلٍ مات أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء»‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا الحديث أولى من غيره، لموافقته الأصول العامّة، ولأنّ الذّمّة باقيةٌ وحقّه فيها‏.‏

الرّجوع فيما قبضه المدين بغير الشّراء

27 - اختلف القائلون بالرّجوع فيما قبضه الغريم بغير الشّراء‏.‏

أ - فقد عمّم الشّافعيّة القول بأنّ له الرّجوع في عين ماله بالفسخ في سائر المعاوضات الماليّة المحضة كالقرض والسّلم، بخلاف غيرها، كالهبة، والنّكاح والصّلح عن دم العمد والخلع‏.‏

وصنيع الحنابلة يوحي بأنّ قولهم في ذلك كقول الشّافعيّة، وإن لم نرهم صرّحوا بذلك، لكنّ تمثيلهم لما يرجع فيه بعين القرض ورأس مال السّلم والعين المؤجّرة يدلّ على ذلك‏.‏

ب - وأجاز المالكيّة الرّجوع للوارث، ومن ذهب له الثّمن، أو تصدّق عليه به، أو أحيل به‏.‏ وأبوا الرّجوع فيما لا يمكن الرّجوع فيه كعصمةٍ، فلو خالعت زوجها على مالٍ، ثمّ فلّست قبل أداء البدل، لم يكن لمخالعها الرّجوع بالعصمة لأنّها خرجت منه، ويحاصّ الغرماء ببدل الخلع، وكما لو فلّس الجاني بعد الصّلح عن القصاص لم يكن لأولياء القتيل الرّجوع إلى القصاص، لتعذّر ذلك شرعاً بعد العفو، بل يحاصّون الغرماء بعوض الصّلح‏.‏

شروط الرّجوع في عين المال

جملة الشّروط الّتي اشترطها القائلون بالرّجوع في عين المال الّتي عند المفلّس هي كما يلي‏:‏ الشّرط الأوّل ‏:‏

28 - أن يكون المفلّس قد ملكها قبل الحجر لا بعده‏.‏ فإن كان ملكها بعد الحجر فليس البائع أحقّ بها، ولو لم يكن عالماً بالحجر، وذلك لأنّه ليس له المطالبة بثمنها في الحال، فلم يملك الفسخ‏.‏

وقيل‏:‏ ليس هذا شرطاً، لعموم الخبر‏.‏ وقيل بالتّفريق بين العالم ومن لم يعلم‏.‏

الشّرط الثّاني ‏:‏

29 - قال الحنابلة‏:‏ أن تكون السّلعة باقيةً بعينها، ولم يتلف بعضها، فإن تلفت كلّها أو تلف جزءٌ منها، كما لو انهدم بعض الدّار، أو تلفت ثمرة البستان، لم يكن للبائع الرّجوع، وكان أسوة الغرماء‏.‏

واحتجّوا بقول النّبيّ‏:‏ «من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس فهو أحقّ به من غيره» قالوا‏:‏ فإنّ قوله‏:‏ ‏"‏ بعينه ‏"‏ يقتضي ذلك‏.‏ ولأنّه إذا أدركه بعينه فأخذه انقطعت الخصومة بينهما‏.‏

وعند المالكيّة والشّافعيّة يمنع تلف كلّه الرّجوع، ولا يمنع تلف بعضه الرّجوع، على تفصيلٍ عندهم في ذلك يرجع إليه في بابه‏.‏

الشّرط الثّالث ‏:‏

30 - أن تكون السّلعة عند المفلّس على حالها الّتي اشتراها عليها‏.‏ فإن انتقلت عين السّلعة عن الحال الّتي اشتراها عليها، بعد شرائه لها - قال الحنابلة‏:‏ بما يزيل اسمها - منع ذلك الرّجوع، كما لو طحن الحنطة، أو فصّل الثّوب، أو ذبح الكبش، أو تتمّر رطبه، أو نجّر الخشبة باباً، أو نسج الغزل، أو فصّل القماش قميصاً‏.‏ وهذا عند المالكيّة والحنابلة‏.‏ وقالوا‏:‏ لأنّه لم يجد عين ماله‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن لم تزد القيمة بهذا الانتقال رجع ولا شيء للمفلّس‏.‏ وإن نقصت فلا شيء للبائع إن رجع به‏.‏ وإن زادت، فالأظهر أنّه يباع وللمفلّس من ثمنه بنسبة ما زاد‏.‏

الشّرط الرّابع ‏:‏

31 - ألاّ يكون المبيع قد زاد عند المفلّس زيادةً‏.‏ متّصلةً، كالسّمن والكبر، وتجدّد الحمل - ما لم تلد - وهذا على قولٍ في مذهب أحمد‏.‏

وقول المالكيّة والشّافعيّة، وهو روايةً عن أحمد‏:‏ أنّ الزّيادة المتّصلة المتولّدة لا تمنع الرّجوع، ويفوز بها البائع، إلاّ أنّ المالكيّة يخيّرون الغرماء بين أن يعطوا السّلعة، أو ثمنها الّذي باعها به‏.‏ وهذا بخلاف نقص الصّفة فلا يمنع الرّجوع‏.‏

أمّا الزّيادة المنفصلة فإنّها لا تمنع الرّجوع، وذلك كالثّمرة والولد‏.‏ وهذا قول مالكٍ والشّافعيّ وأحمد، سواءٌ أنقص بها المبيع أم لم ينقص، إذا كان نقص صفةٍ‏.‏ والزّيادة المنفصلة للمشتري وهو المفلّس‏.‏

الشّرط الخامس ‏:‏

32 - ألاّ يكون قد تعلّق بالسّلعة حقٌّ للغير، كأن وهبها المشتري أو باعها أو وقفها فلا رجوع، لأنّه لم يدرك متاعه بعينه عند المفلّس، فلا يدخل في النّصّ‏.‏

وقال المالكيّة في المرهون‏:‏ إنّ للدّائن أن يفكّ الرّهن بدفع ما رهنت به العين، ويأخذها، ويحاصّ الغرماء بما دفع‏.‏

الشّرط السّادس ‏:‏

33 - وهو للشّافعيّة‏.‏ قالوا‏:‏ أن يكون الثّمن ديناً، فلو كان الثّمن عيناً قدّم على الغرماء بقبض العين الّتي هي ثمنٌ، وذلك كما لو باع بقرةً ببعيرٍ، ثمّ أفلس المشتري، فالبائع يرجع بالبعير ولا يرجع بالمبيع، أي البقرة‏.‏

الشّرط السّابع ‏:‏

34 - قال الشّافعيّة‏:‏ أن يكون الثّمن حالاًّ عند الرّجوع، فلا رجوع فيما كان ثمنه مؤجّلاً ولم يحلّ، إذ لا مطالبة في الحال‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن كان الثّمن مؤجّلاً لم يحلّ رجوع البائع في السّلعة، فتوقّف إلى الأجل، فيختار البائع حينئذٍ بين الفسخ والتّرك‏.‏ ولا تباع فيما يباع من مال المفلّس‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ حقّ البائع تعلّق بها، فقدّم على غيره، وإن كان مؤجّلاً، كالمرتهن‏.‏

الشّرط الثّامن ‏:‏

35 - وهو للحنابلة، قالوا‏:‏ يشترط ألاّ يكون البائع قد قبض من ثمنها شيئاً‏.‏ وإلاّ سقط حقّه في الرّجوع‏.‏ قالوا‏:‏ والإبراء من بعض الثّمن كقبضه‏.‏

واحتجّوا بما روى الدّارقطنيّ من حديث أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ «أيّما رجلٍ باع سلعةً، فأدرك سلعته بعينها عند رجلٍ قد أفلس، ولم يكن قبض من ثمنها شيئاً، فهي له‏.‏ وإن كان قبض من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء»‏.‏

وقال الشّافعيّ في مذهبه الجديد‏:‏ للبائع أن يرجع بما يقابل الباقي من دينه‏.‏ وقال مالكٌ‏:‏ هو مخيّرٌ إن شاء ردّ ما أخذه ورجع في جميع العين، وإن شاء حاصّ الغرماء ولم يرجع‏.‏

الشّرط التّاسع ‏:‏

36 - وهو للمالكيّة، قالوا‏:‏ يشترط ألاّ يفديه الغرماء بثمنه الّذي على المفلّس، فإن فدوه - ولو بما لهم - لم يأخذه، وكذا لو ضمنوا له الثّمن، وهم ثقاتٌ، أو أعطوا به كفيلاً ثقةً‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا يسقط حقّه في الفسخ، ولو قال الغرماء له‏:‏ لا تفسخ ونحن نقدّمك بالثّمن من التّركة‏.‏ قال الحنابلة‏:‏ لعموم الأدلّة‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لما في ذلك من المنّة، ولخوف ظهور غريمٍ آخر‏.‏

لكن لو أنّ الغرماء بذلوا الثّمن للمفلّس، فأعطاه للبائع سقط حقّه في الفسخ‏.‏

الشّرط العاشر ‏:‏

37 - أن يكون المفلّس حيّاً إلى أخذها، فإن مات بعد الحجر عليه، سقط حقّ البائع في الرّجوع‏.‏ وهذا مذهب مالكٍ وأحمد‏.‏ لحديث‏:‏ «‏.‏‏.‏‏.‏ فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء»‏.‏ وفي روايةٍ‏:‏ «أيّما امرئٍ مات، وعنده مال امرئٍ بعينه، اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء»‏.‏ قالوا‏:‏ ولأنّه تعلّق به حقّ غير المفلّس، وهم الورثة، كالمرهون، وكما لو باعه‏.‏ وقال الشّافعيّ‏:‏ له الفسخ واسترجاع العين، لحديث أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ «أيّما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه»‏.‏

الشّرط الحادي عشر ‏:‏

38 - أن يكون البائع أيضاً حيّاً، فلو مات قبل الرّجوع فلا رجوع على قولٍ عند الحنابلة‏.‏ وفي الإنصاف‏:‏ للورثة الرّجوع‏.‏

الشّرط الثّاني عشر ‏:‏

39 - قال الشّافعيّة على الأصحّ عندهم‏:‏ له أن يرجع فور علمه بالحجر، فإن تراخى في الرّجوع، وادّعى أنّه جهل أنّ الرّجوع على الفور، قبل منه‏.‏ ولو صولح عن الرّجوع على مالٍ لم يصحّ الصّلح، وبطل حقّه من الفسخ إن علم‏.‏ ووجه اشتراطه عندهم أنّه كالرّدّ بالعيب، بجامع دفع الضّرر‏.‏ والقول الآخر للشّافعيّة، وهو مذهب الحنابلة‏:‏ أنّ الرّجوع على التّراخي‏.‏ قالوا‏:‏ وهو كرجوع الأب في هبته لابنه‏.‏

الرّجوع بعين الثّمن

40 - لو كان الغريم اشترى من المفلّس شيئاً في الذّمّة، وأسلم الثّمن، ولم يقبض السّلعة، حتّى حجر على المفلّس، فهل يرجع الغريم بما أسلمه من النّقود ‏؟‏ قال المالكيّة‏:‏ نعم يرجع إن ثبت عينها ببيّنةٍ أو طبعٍ، قياساً للثّمن على المثمّن‏.‏

وقال أشهب من المالكيّة‏:‏ لا يرجع، لأنّ الأحاديث إنّما فيها «من وجد سلعته‏.‏‏.‏‏.‏» و‏:‏ «من وجد متاعه‏.‏‏.‏‏.‏» والنّقدان لا يطلق عليهما ذلك عرفاً‏.‏

ثمّ قد قال المالكيّة‏:‏ ولو اشترى شراءً فاسداً ففسخه الحاكم وأفلس البائع، فالمشتري أحقّ بالثّمن إن كان موجوداً لم يفت‏.‏ ولم نعثر على نصٍّ في هذه المسألة لسائر المذاهب‏.‏

استحقاق مشتري العين أخذها إن حجر على البائع للفلس قبل تقبيضها

41 - نصّ الحنابلة على أنّ الرّجل لو باع عيناً، ثمّ أفلس قبل تقبيضها، فالمشتري أحقّ بها من الغرماء، لأنّها عين ملكه، وذلك صادقٌ عندهم سواءٌ كانت السّلعة ممّا لا يحتاج لحقّ توفيةٍ، كدارٍ وسيّارةٍ، أو ما يحتاج إليه، كالمكيل والموزون‏.‏

ولم نجد تعرّضاً لهذه المسألة في المذاهب الأخرى‏.‏

هل يحتاج الرّجوع إلى حكم حاكمٍ

42 - لا يفتقر الرّجوع في العين إلى حكم حاكمٍ، على مذهب الحنابلة، وعلى الأصحّ في مذهب الشّافعيّة‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّه ثبت بالنّصّ‏.‏ ولو حكم بمنع الفسخ حاكمٌ فعند الشّافعيّة‏:‏ لا ينقض حكمه قالوا‏:‏ لأنّ المسألة اجتهاديّةٌ، والخلاف فيها قويٌّ، إذ النّصّ كما يحتمل أنّه ‏"‏ أحقّ بعين متاعه ‏"‏ يحتمل أنّه ‏"‏ أحقّ بثمنه ‏"‏ وإن كان الأوّل أظهر‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ يجوز نقض حكمه، نقل صاحب المغني عن نصّ أحمد‏:‏ لو حكم حاكمٌ بأنّ صاحب المتاع أسوة الغرماء، ثمّ رفع إلى رجلٍ يرى العمل بالحديث، جاز له نقض حكمه‏.‏ أي فما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى حكم حاكمٍ‏.‏

ما يحصل به الرّجوع

43 - يحصل الرّجوع بالقول، بأن يقول‏:‏ فسخت البيع أو رفعته أو نقضته أو أبطلته أو رددت‏.‏ نصّ على هذا الشّافعيّة والحنابلة، قال الحنابلة‏:‏ فلو قال ذلك صحّ رجوعه ولو لم يقبض العين‏.‏ فلو رجع كذلك ثمّ تلفت العين تلفت من مال البائع ما لم يتبيّن أنّها تلفت قبل رجوعه، أو كانت بحالةٍ لا يصحّ الرّجوع فيها لفقد شريطةٍ من شرائط الرّجوع المعتبرة، أو لمانعٍ يمنع الرّجوع، كما لو كان دقيقاً فاتّخذه خبزاً، أو حديداً فاتّخذه سيفاً‏.‏

أمّا الرّجوع بالفعل‏:‏ فقد نصّ الشّافعيّة - في الأصحّ عندهم - والحنابلة على أنّ الرّجوع لا يحصل بالتّصرّف النّاقل للملكيّة كالبيع، ولو نوى به الرّجوع‏.‏ قال صاحب مطالب أولي النّهى‏:‏ حتّى لو أخذ العين بنيّة الرّجوع لم يحصل الرّجوع‏.‏ والقول الآخر‏:‏ أنّه يحصل بذلك، كالبيع في مدّة الخيار‏.‏ ولم نجد للمالكيّة نصّاً في ذلك‏.‏

ظهور عينٍ مستحقّةٍ في مال المفلّس

44 - لو ظهر شيءٌ مستحقٌّ في مال المفلّس فهو لصاحبه‏.‏

ولو أنّ المفلّس باعه قبل الحجر ثمّ استحقّ - والثّمن تالفٌ - فإنّ المشتري يشارك الغرماء كواحدٍ منهم، وسواءٌ أكان تلف الثّمن قبل الحجر أو بعده، لأنّ دينه من جملة الدّيون الثّابتة في ذمّة المفلّس قبل إفلاسه‏.‏ وإن كان الثّمن غير تالفٍ، فالمشتري أولى به على ما صرّح به الشّافعيّة، ويفهم من كلام الحنابلة، لأنّه عين ماله‏.‏

الرّجوع في الأرض بعد البناء فيها أو غرسها

45 - عند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا أفلس مشتري الأرض وحجر عليه، وكان قد غرس فيها غراساً أو بنى بناءً، لم يمنع ذلك من رجوع البائع فيها‏.‏ والزّرع الّذي يجذّ مرّةً بعد أخرى وتبقى أصوله كالغراس في هذا‏.‏

ثمّ إن تراضى الطّرفان - البائع من جهةٍ، والغرماء مع المفلّس من الجهة الأخرى - على القلع، أو أباه البائع وطلبوه هم فلهم ذلك، لأنّه ملكٌ للمفلّس لا حقٌّ للبائع فيه، ولا يمنع الإنسان من أخذ ملكه‏.‏ ويلزم حينئذٍ تسوية الأرض من الحفر، وأرش نقص الأرض بسبب القلع يجب ذلك في مال المفلّس، لأنّه نقصٌ حصل لتخليص ملك المفلّس، فكان عليه، ويقدّم به الآخذ على حقوق الغرماء عند الشّافعيّة، لأنّه لمصلحة تحصيل المال، ويحاصّهم به عند الحنابلة‏.‏ وإن أبى المفلّس والغرماء القلع، لم يجبروا عليه، لأنّه وضع بحقٍّ‏.‏ وللآخذ حينئذٍ تملّك الغرس والبناء بقيمته قائماً، لأنّه غرس أو بنى وهو صاحب حقٍّ، وإن شاء فله القلع وإعطاؤه للغرماء مع أرش نقصه، فإن أبى الآخذ تملّك الغرس والبناء، وأبى أداء أرش النّقص، فلا رجوع له على الأظهر عند الشّافعيّة والمقدّم عند الحنابلة، لأنّ الرّجوع حينئذٍ ضررٌ على الغرماء، ولا يزال الضّرر بالضّرر‏.‏

والوجه الآخر عند الطّرفين‏:‏ له الرّجوع، وتكون الأرض على ملكه، والغرس والبناء للمفلّس‏.‏ ولم يتعرّض المالكيّة والحنفيّة لهذه المسألة فيما اطّلعنا عليه من كلامهم‏.‏

إفلاس المستأجر

46 - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا آجر عيناً له بأجرةٍ حالّةٍ ولم يقبضها حتّى حجر على المستأجر لفلسٍ، فالمؤجّر مخيّرٌ، إن شاء رجع في العين بالفسخ، وإن شاء ترك ذلك للغرماء وحاصّ بجميع الأجرة‏.‏

وإن اختار الفسخ، وكان قد مضى شيءٌ من المدّة، فقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ يشارك المؤجّر الغرماء بأجرة ما مضى، ويفسخ في الباقي‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ في هذه الحال يسقط حقّه في الفسخ بناءً على قولهم‏:‏ إنّ تلف بعض السّلعة يمنع الرّجوع‏.‏

إفلاس المؤجّر

47 - إن آجر داراً بعينها ثمّ أفلس المؤجّر، فالإجارة ماضيةٌ ولا تنفسخ بفلسه للزومها، وسواءٌ أقبض العين أم لم يقبضها‏.‏ وإن طلب الغرماء بيع الدّار المعيّنة في الحال بيعت مؤجّرةً، وإن اتّفقوا على تأخير بيعها حتّى تنقضي الإجارة جاز‏.‏

أمّا إن استأجر داراً موصوفةً في الذّمّة، ثمّ أفلس المؤجّر قبل القبض، فالمستأجر أسوة الغرماء، لعدم تعلّق حقّه بعينٍ‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ وإن أفلس ملتزم عملٍ في الذّمّة، وقد سلّم للمستأجر عيناً ليستوفي منها، قدّم بها كالمعيّنة في العقد‏.‏ ثمّ قال الشّافعيّة‏:‏ فإن لم يكن سلّم له عيناً، وكانت الأجرة باقيةً في يد المؤجّر، فللمستأجر الفسخ ويستردّ الأجرة‏.‏ فإن كانت تالفةً ضرب مع الغرماء بأجرة المثل للمنفعة، ولا تسلّم إليه حصّته منها بالمحاصّة، لامتناع الاعتياض عن المسلم فيه، إذ إجارة الذّمّة سلمٌ في المنافع، فيحصل له بعض المنفعة الملتزمة إن تبعّضت بلا ضررٍ، كحمل مائة رطلٍ مثلاً، وإلاّ - كخياطة ثوبٍ - فسخ، ويحاصّ بالأجرة المبذولة‏.‏ ولم نجد للحنفيّة كلاماً في هذه المسائل‏.‏

الأثر الخامس‏:‏ من آثار الحجر على المفلّس بيع الحاكم ماله

48 - يبيع الحاكم مال المحجور عليه لفلسٍ، عند غير أبي حنيفة ومن وافقه، ليؤدّي ما عليه من الدّيون‏.‏ وإنّما يبيعه إن كان من غير جنس الدّين‏.‏ ويراعي الحاكم عند البيع ما فيه المصلحة للمفلّس‏.‏ وذكر ابن قدامة الأمور التّالية، وذكرها غيره أيضاً‏:‏

أ - يبيع بنقد البلد لأنّه أوفر، فإن كان في البلد نقودٌ باع بغالبها، فإن تساوت باع بجنس الدّين‏.‏

ب - يستحبّ إحضار المفلّس البيع، قال‏:‏ ليحصي ثمنه ويضبطه ليكون أطيب لقلبه، ولأنّه أعرف بجيّد متاعه ورديئه، فإذا حضر تكلّم عليه، فتكثر الرّغبة فيه‏.‏

ت - يستحبّ إحضار الغرماء أيضاً، لأنّه يباع لهم، وربّما رغبوا في شراء شيءٍ منه، فزادوا في ثمنه، فيكون أصلح لهم وللمفلّس، وأطيب لنفوسهم وأبعد من التّهمة، وربّما وجد أحدهم عين ماله فيأخذها‏.‏

ث - يستحبّ بيع كلّ شيءٍ في سوقه، لأنّه أحوط وأكثر لطلاّبه وعارفي قيمته‏.‏

ج-يترك للمفلّس من ماله شيءٌ، ويأتي تفصيل الكلام فيه‏.‏

ح- يلاحظ الحاكم نوعاً من التّرتيب تتحقّق به المصلحة، فيما يقدّم بيعه وما يؤخّره، فيقدّم الأيسر فالأيسر، حسبما هو أنظر للمفلّس، إذ قد يكتفي ببيع البعض، فيبدأ ببيع الرّهن،0 ويدفع إلى المرتهن قدر دينه، ويردّ ما فضل من الثّمن على الغرماء، وإن بقيت من دينه بقيّةٌ ضرب بها مع الغرماء‏.‏

ثمّ يبيع ما يسرع إليه الفساد من الطّعام الرّطب وغيره، لأنّ إبقاءه يتلفه‏.‏ وقدّمه الشّافعيّة على بيع الرّهن‏.‏ ثمّ يبيع الحيوان، لأنّه معرّضٌ للتّلف، ويحتاج إلى مئونةٍ في بقائه‏.‏

ثمّ يبيع السّلع والأثاث، لأنّه يخاف عليه الضّياع وتناله الأيدي‏.‏

ثمّ يبيع العقار آخراً‏.‏ قال المالكيّة‏:‏ يستأني به الشّهر والشّهرين‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّ هذا التّرتيب مستحبٌّ في غير الحيوان، وما يسرع إليه الفساد، وما يخاف عليه النّهب أو استيلاء نحو ظالمٍ عليه‏.‏

وذكر المالكيّة الأمور الآتية أيضاً‏:‏

خ - أنّه لا يبيع إلاّ بعد الإعذار في البيّنة للمفلّس فيما ثبت عنده من الدّين، والإعذار لكلٍّ من القائمين ‏(‏الدّائنين المطالبين‏)‏، لأنّ لكلٍّ الطّعن في بيّنة صاحبه، ويحلف كلاًّ من الدّائنين أنّه لم يقبض من دينه شيئاً، ولا أحال به، ولا أسقطه، وأنّه باقٍ في ذمّته إلى الآن‏.‏

د - وأنّه يبيع بالخيار ثلاثاً لطلب الزّيادة في كلّ سلعةٍ، إلاّ ما يفسده التّأخير‏.‏

ذ - وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يبيع بأقلّ من ثمن المثل، وهو مذهب الحنابلة، كما في مطالب أولي النّهى، وبعض الشّافعيّة قال‏:‏ يبيع بما تنتهي إليه الرّغبات، قالوا جميعاً‏:‏ فإن ظهر راغبٌ في السّلعة بأكثر ممّا بيعت به - وكان ذلك في مدّة خيارٍ، ومنه خيار المجلس - وجب الفسخ، والبيع للزّائد‏.‏ وبعد مدّة الخيار لا يلزم الفسخ، ولكن يستحبّ للمشتري الإقالة‏.‏

ر - وقالوا أيضاً‏:‏ لا يبيع إلاّ بنقدٍ، ولا يبيع بثمنٍ مؤجّلٍ، ولا يسلّم المبيع حتّى يقبض الثّمن‏.‏

ما يترك للمفلّس من ماله

49 - يترك للمفلّس من ماله ما يأتي‏:‏

أ - الثّياب ‏:‏ يترك للمفلّس بالاتّفاق دستٌ من ثيابه، وقال الحنفيّة‏:‏ أو دستان‏.‏ ويباع ما عداهما من الثّياب‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يباع ما لا يحتاج إليه في الحال، كثياب الشّتاء في الصّيف‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يباع ثوبا جمعته إن كثرت قيمتهما، ويشتري له دونهما، وهو بمعنى ما صرّح به الحنابلة والشّافعيّة من أنّ الثّياب إن كانت رفيعةً لا يلبس مثله مثلها تباع، ويترك له أقلّ ما يكفيه من الثّياب‏.‏

وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ يترك لعياله كما يترك له من الملابس‏.‏

ب - الكتب ‏:‏ وتترك له الكتب الّتي يحتاج إليها في العلوم الشّرعيّة وآلتها، إن كان عالماً لا يستغني عنها‏.‏ عند الشّافعيّة، وعلى قولٍ في مذهب المالكيّة‏.‏ والمقدّم عند المالكيّة أنّها تباع أيضاً‏.‏

ت - دار السّكنى‏:‏ قال مالكٌ والشّافعيّ - في الأصحّ عنه - وشريحٌ‏:‏ تباع دار المفلّس ويكترى له بدلها، واختار هذا ابن المنذر، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الّذي أصيب في ثمارٍ ابتاعها‏:‏ «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلاّ ذلك»‏.‏ وقال أحمد وإسحاق، وهو قولٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏ لا تباع داره الّتي لا غنًى له عن سكناها‏.‏ فإن كانت الدّار نفيسة بيعت واشتري له ببعض ثمنها مسكنٌ يبيت فيه، ويصرف الباقي إلى الغرماء‏.‏

ث - آلات الصّانع ‏:‏ قال الحنابلة وبعض المالكيّة‏:‏ تترك للمفلّس آلة صنعته، ثمّ قال المالكيّة من هؤلاء‏:‏ إنّما تترك إن كانت قليلة القيمة، كمطرقة الحدّاد‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ تباع أيضاً‏.‏ ونصّ الشّافعيّة أنّها تباع‏.‏

ج - رأس مال التّجارة ‏:‏ قال الحنابلة وابن سريجٍ من الشّافعيّة‏:‏ يترك للمفلّس رأس مالٍ يتّجر فيه، إذا لم يحسن الكسب إلاّ به‏.‏ قال الرّمليّ‏:‏ وأظنّه يريد الشّيء اليسير، أمّا الكثير فلا‏.‏ ولم نر نصّاً في ذلك للحنفيّة والمالكيّة‏.‏

ح - القوت الضّروريّ ‏:‏ عند المالكيّة والحنابلة‏:‏ يترك للمفلّس أيضاً من ماله قدر ما يكفيه وعياله من القوت الضّروريّ الّذي تقوم به البنية، لا ما يترفّه‏.‏ قال المالكيّة‏:‏ وتترك له ولزوجاته وأولاده ووالديه النّفقة الواجبة عليه، بالقدر الّذي تقوم به البنية‏.‏ وهذا إن كان ممّن لا يمكنه الكسب، أمّا إن كان ذا صنعةٍ يكتسب منها، أو يمكنه أن يؤجّر نفسه فلا يترك له شيءٌ‏.‏ ثمّ قد قال المالكيّة‏:‏ يترك ذلك له ولمن ذكر قدر ما يكفيهم إلى وقتٍ يظنّ بحسب الاجتهاد أنّه يحصل له فيه ما تتأتّى معه المعيشة‏.‏

أمّا عند الشّافعيّة فلا يترك له من القوت شيءٌ ما عدا قوت يوم القسمة، ولا نفقة عليه أيضاً لقريبٍ، لأنّه معسرٌ بخلاف حاله قبل القسمة‏.‏ وتسقط نفقة القريب لما بعد القسمة أيضاً عند الحنابلة‏.‏

الإنفاق على المفلّس وعلى عياله مدّة الحجر وقبل قسمة ماله على الغرماء

50 - عند الحنفيّة على قول الصّاحبين، والشّافعيّة والحنابلة، وهو مقتضى مذهب المالكيّة كما تقدّم‏:‏ يجب على الحاكم أن ينفق من مال المفلّس عليه - أي على المفلّس - بالمعروف، وهو أدنى ما ينفق على مثله، إلى أن يقسم ماله‏.‏ وذلك لأنّ ملكه لم يزل عن ماله قبل القسمة‏.‏ وكذلك ينفق على من تلزم المفلّس نفقته، من زوجةٍ وقريبٍ ولو حدث بعد الحجر، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك ثمّ بمن تعول»، وهذا ما لم يستغن المفلّس بكسبٍ حلالٍ لائقٍ به‏.‏

وفي الخانيّة من كتب الحنفيّة‏:‏ ولا يضيّق عليه في مأكوله ومشروبه وملبوسه، ويقدّر له المعروف والكفاف‏.‏ أمّا بعد القسمة فقد تقدّم بيان ما يترك له من النّفقة‏.‏

المبادرة بقسم مال المفلّس بين غرمائه

51 - نصّ المالكيّة على أنّه لا ينبغي الاستيناء ‏(‏التّمهّل والتّأخير‏)‏ بقسم مال المفلّس، وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يندب المبادرة بالقسم لبراءة ذمّة المدين، ولئلاّ يطول زمن الحجر عليه، ولئلاّ يتأخّر إيصال الحقّ لمستحقّه، وتأخير قسمه مطلٌ وظلمٌ للغرماء‏.‏ قال الشّافعيّة‏:‏ ولا يفرّط في الاستعجال، كي لا يطمع فيه بثمنٍ بخسٍ‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن كان يخشى أن يكون على المفلّس دينٌ لغير الغرماء الحاضرين فإنّ القاضي يستأني بالقسم باجتهادٍ‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يلزم الحاكم أن ينتظر ليتمّ بيع الأموال كلّها، بل يندب للحاكم عندهم أن يقسم بالتّدريج كلّ ما يقبضه‏.‏ فإن طلب الغرماء ذلك وجب‏.‏ فإن تعسّر ذلك لقلّة الحاصل يؤخّر القسمة حتّى يجتمع ما تسهل قسمته، فيقسمه، ولو طلبه الغرماء لم يلزمه‏.‏

هل يلزم قبل القسمة حصر الدّائنين ‏؟‏

52 - نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا يكلّف القاضي غرماء المفلّس إثبات أنّه لا غريم غيرهم، وذلك لاشتهار الحجر، فلو كان ثمّة غريمٌ لظهر‏.‏ وهذا بخلاف قسمة التّركة عند جميعهم، فإنّ القاضي لا يقسم حتّى يكلّفهم بيّنةً تشهد بحصرهم‏.‏

ظهور غريمٍ بعد القسمة

53 - لو قسم الحاكم مال المفلّس بين غرمائه، فظهر غريمٌ بعد ذلك بدينٍ سابقٍ على الحجر، شارك كلّ واحدٍ معهم بالحصّة، ولم تنقض القسمة‏.‏ فإن أتلف أحدهم ما أخذه رجع عليه كذلك، على ما نصّ عليه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ثمّ قال الشّافعيّة‏:‏ فإن كان الآخذ معسراً جعل ما أخذه كالمعدوم، وشارك من ظهر الآخرين‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن اقتسموا، ولم يعلموا بالغريم الآخر، يرجع على كلّ واحدٍ منهم بما ينوبه، ولا يأخذ أحدٌ عن أحدٍ‏.‏ وإن كانوا عالمين يرجع عليهم بحصّته، ولكن يأخذ المليء عن المعدم، والحاضر عن الغائب، والحيّ عن الميّت، أي في حدود ما قبضه كلٌّ منهم‏.‏ وفي قولٍ عند الشّافعيّة‏:‏ تنقض القسمة بكلّ حالٍ، كما لو ظهر وارثٌ بعد قسمة التّركة‏.‏

كيفيّة قسمة مال المفلّس بين غرمائه

54 - أ - يبدأ من مال المفلّس بإعطاء أجرة من يصنع ما فيه مصلحةٌ للمال، من منادٍ وسمسارٍ وحافظٍ وحمّالٍ وكيّالٍ ووزّانٍ ونحوهم، تقدّم على ديون الغرماء‏.‏ ذكر ذلك صاحب الإقناع من الحنابلة‏.‏ وذكر الدّردير من المالكيّة تقديم ساقي الزّرع الّذي أفلس ربّه على المرتهن، وقال‏:‏ إذ لولاه لما انتفع بالزّرع‏.‏

ب - ثمّ بمن له رهنٌ لازمٌ أي مقبوضٌ، فيختصّ بثمنه إن كان قدر دينه، لأنّ حقّه متعلّقٌ بعين الرّهن وذمّة الرّاهن‏.‏ وما زاد من ثمن الرّهن ردّ على المال، وما نقص ضرب به الغريم مع الغرماء‏.‏ وأضاف المالكيّة‏:‏ إنّ الصّانع أحقّ من الغرماء بما في يده إذا أفلس ربّ الشّيء المصنوع بعد تمام العمل حتّى يستوفي أجرته منه، لأنّه وهو تحت يده كالرّهن، حائزه أحقّ به في الفلس، وإلاّ فليس أحقّ به إذا سلّمه لربّه قبل أن يفلّس، أو أفلس ربّه قبل تمام العمل‏.‏

قالوا‏:‏ ومن استأجر دابّةً ونحوها كسفينةٍ، وأفلس، فربّها أحقّ بالمحمول عليها من أمتعة المكتري، يأخذه في أجرة دابّته وإن لم يكن ربّها معها، ما لم يقبض المحمول ربّه - وهو المكتري - قبض تسلّمٍ‏.‏ وهذا بخلاف مكتري الحانوت ونحوه فلا يختصّ بما فيه‏.‏ والفرق أنّ بحيازة الظّهر لما فيها من الحمل والنّقل أقوى من حيازة الحانوت والدّار‏.‏

وقال المالكيّة أيضاً‏:‏ وكذلك المكتري لدابّةٍ ونحوها أحقّ بها حتّى يستوفي من منافعها ما نقده من الكراء، سواءٌ أكانت معيّنةً أو غير معيّنةٍ، إلاّ أنّها إن كانت غير معيّنةٍ لم يكن أحقّ بها ما لم يقبضها قبل فلس المؤجّر‏.‏

ج - ثمّ من وجد عين ماله أخذها بشروطها المتقدّمة‏.‏ وكذا من له عينٌ مؤجّرةٌ استأجرها منه المفلّس، فله أخذها وفسخ الإجارة على الخلاف والتّفصيل المتقدّم‏.‏

د - ثمّ تقسم أموال المفلّس المتحصّلة بين غرمائه‏.‏ وهذا إن كانت الدّيون كلّها من النّقد‏.‏ وكذلك إن كانت كلّها عروضاً موافقةً لمال المفلّس في الجنس والصّفة، فلا حاجة للتّقويم، بل يتحاصّون بنسبة عرض كلٍّ منهم إلى مجموع الدّيون‏.‏

فإن كانت الدّيون كلّها أو بعضها عروضاً وكان مال المفلّس نقداً، قوّمت العروض بقيمتها يوم القسمة، وحاصّ كلّ غريمٍ بقيمة عروضه، يشترى له بها من جنس عروضه وصفتها‏.‏ ويجوز مع التّراضي أخذٌ الثّمن إن خلا من مانعٍ، كما لو كان دينه ذهباً، ونابه في القسم فضّةٌ، فلا يجوز له أخذ ما نابه، لأنّه يؤدّي إلى الصّرف المؤخّر‏.‏ وهذا التّفصيل منصوص المالكيّة‏.‏ ولو أنّ المفلّس أو الحاكم قضى ديون بعضهم دون بعضٍ، أو قضى بعضاً منهم أكثر ممّا تقتضيه التّسوية المذكورة شاركوه فيما أخذ بالنّسبة‏.‏

ما يطالب به المفلّس بعد قسمة ماله

55 - لا تسقط ديون الفلس الّتي لم يف ماله بها، بل تبقى في ذمّته‏.‏

ثمّ إن كان هناك أرضٌ أو عقارٌ موصًى له بنفعه أو موقوفٌ عليه، يلزم بإجارته، ويصرف بدل المنفعة إلى الدّيون، ويؤجّر مرّةً بعد أخرى إلى أن تتمّ البراءة، صرّح بذلك الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ أمّا تكليف المفلّس حينئذٍ بالتّكسّب، بإيجار نفسه لسداد الدّيون الباقية، فقد قسّم الشّافعيّة الدّيون إلى قسمين‏:‏

الأوّل‏:‏ ما كان المفلّس عاصياً بسببه، كغاصبٍ، وجانٍ متعمّدٍ، فهذا يلزم بالتّكسّب، ولو بإجارة نفسه، ولو كان ذلك مزرياً به، بل متى أطاقه لزمه، قالوا‏:‏ إذ لا نظر للمروآت في جنب الخروج من المعصية، ولأنّ التّوبة من المعصية واجبةٌ، وهي متوقّفةٌ في حقوق الآدميّين على الوفاء‏.‏

الثّاني‏:‏ ما لم يعص به من الدّيون، فهذا لا يلزمه التّكسّب ولا إيجار نفسه‏.‏

وأمّا المالكيّة فقد أطلقوا القول بأنّ المفلّس لا يلزم بالتّكسّب ولو كان قادراً عليه، ولو كان قد شرط على نفسه ذلك في عقد الدّين‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ الدّين إنّما تعلّق بذمّته‏.‏

وأمّا الحنابلة فقد أطلقوا القول بإجبار المفلّس المحترف على الكسب، وإيجار نفسه فيما يليق به من الصّنائع، واحتجّوا بأنّ المنافع تجري مجرى الأعيان في صحّة العقد عليها، فأجبر على العقد عليها، كما يباع ماله رغماً عنه‏.‏

ثمّ قال المالكيّة والحنابلة‏:‏ لا يجبر المفلّس على قبول التّبرّعات، من هبةٍ أو وصيّةٍ أو عطيّةٍ أو صدقةٍ، لئلاّ يلزم بتحمّل منّةٍ لا يرضاها، ولا على اقتراضٍ‏.‏ وكذا لا يجبر على خلع زوجته وإن بذلت، لأنّ عليه في ذلك ضرراً، ولا على أخذ ديةٍ عن قودٍ وجب له بجنايةٍ عليه أو على مورّثه، لأنّ ذلك يفوّت المعنى الّذي لأجله شرع القصاص‏.‏ ثمّ إن عفا باختياره على مالٍ ثبت وتعلّقت به حقوق الغرماء‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجبر على التّكسّب، ولا يؤاجره القاضي، لسداد ديونه من الأجرة‏.‏

ما ينفكّ به الحجر عن المفلّس

56 - عند الشّافعيّة - ومثلهم الحنابلة فيما لو بقي على المفلّس شيءٌ من الدّيون - لا ينفكّ الحجر عنه بقسمة ماله بين الغرماء، قال الشّافعيّة‏:‏ ولا ينفكّ الحجر أيضاً باتّفاق الغرماء على فكّه، ولا بإبرائهم للمفلّس، بل إنّما ينفكّ بفكّ القاضي، لأنّه لا يثبت إلاّ بإثبات القاضي، فلا ينفكّ إلاّ بفكّه، ولأنّه يحتاج إلى نظرٍ واجتهادٍ، ولاحتمال ظهور غريمٍ آخر‏.‏ ولا ينتظر البراءة من كلّ الدّيون، بل متى ثبت إعساره بالباقي يفكّ الحجر عليه كما لا يحجر على المعسر أصالةً‏.‏ وقال القليوبيّ من الشّافعيّة‏:‏ المعتمد يبقى محجوراً إلى تمام الأداء‏.‏ وصرّح الحنابلة بأنّ الحجر ينفكّ عن المفلّس إن لم يبق عليه للغرماء شيءٌ، دون حاجةٍ إلى فكّه من قبل الحاكم‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّ المعنى الّذي حجر عليه لأجله قد زال‏.‏

أمّا عند المالكيّة، وهو وجهٌ آخر عند الحنابلة ذكره صاحب المغني‏:‏ فإنّ حجر المفلّس ينفكّ بمجرّد قسمة الموجود من ماله‏.‏ قال المالكيّة‏:‏ ويحلف أنّه لم يكتم شيئاً، فينفكّ حينئذٍ ولو بلا حكم حاكمٍ‏.‏ ثمّ قد قال المالكيّة والحنابلة‏:‏ وإذا انفكّ الحجر عن المفلّس، ثمّ ثبت أنّ عنده مالاً غير ما قسم، أو اكتسب بعد فكّ الحجر مالاً، يعاد الحجر عليه بطلب الغرماء، وتصرّفه حينئذٍ قبل الحجر صحيحٌ‏.‏ ولا يعاد الحجر عليه بعد انفكاكه ما لم يثبت أو يتجدّد له مالٌ‏.‏ ولم نجد تصريحاً بحكم هذه المسألة لدى الحنفيّة، غير أنّهم قالوا في الحجر على السّفيه ‏(‏وهو المبذّر لماله‏)‏‏:‏ لا يرتفع الحجر عنه إلاّ بحكم القاضي عند أبي يوسف‏.‏

ما يلزم المفلّس من الدّيون بعد فكّ الحجر

57 - إذا انفكّ الحجر عن المفلّس بقسم ماله أو بفكّ القاضي الحجر عنه على التّفصيل المتقدّم، وبقي عليه شيءٌ من الدّين، فلزمته ديونٌ أخرى بعد فكّ الحجر عنه، وتجدّد له مالٌ، فحجر عليه مرّةً أخرى بطلب الغرماء، قال الحنابلة‏:‏ يشارك أصحاب الحجر الأوّل ببقيّة ديونهم أصحاب الحجر الثّاني بجميع ديونهم، لأنّهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمّته، فتساووا في الاستحقاق‏.‏

أمّا المالكيّة فقد فصلوا، فقالوا‏:‏ يشارك الأوّلون الآخرين فيما تجدّد بسببٍ مستقلٍّ، كإرثٍ وصلةٍ وأرش جنايةٍ ووصيّةٍ ونحو ذلك، ولا يشاركونهم في أثمان ما أخذه من الآخرين، وفيما تجدّد عن ذلك إلاّ أن يفضل عن ديونهم فضلةٌ‏.‏

ومذهب الشّافعيّة أنّه لو فكّ الحجر عن المفلّس، وحدث له مالٌ بعده فلا تعلّق لأحدٍ به، فيتصرّف فيه كيف شاء، فلو ظهر له مالٌ - كان قبل الفكّ - تبيّن بقاء الحجر فيه، سواءٌ حدث له بعد الفكّ مالٌ وغرماء أو لا، والمال الّذي ظهر أنّه كان قبل فكّ الحجر للغرماء الأوّلين، ويشاركون من حدث بعدهم فيما حدث بعد الفكّ، ولا يشارك غريمٌ حادثٌ من قبله في مالٍ حدث قبله أو معه‏.‏

أحكام من مات مفلّساً

58 - من مات مفلّساً تجري بعض أحكام الإفلاس في حقّ ديونه، ويمتنع جريان بعض أحكام الإفلاس الأخرى‏.‏ ويرجع للتّفصيل إلى مصطلح ‏(‏تركةٌ‏)‏‏.‏

أحكامٌ أخرى يستتبعها التّفليس

59 - إذا فلّس المدين استتبع تفليسه أحكاماً في بعض ما كان صدر منه من التّصرّفات، كما في توكيله أو ضمانه أو غير ذلك‏.‏ وينظر حكم كلّ شيءٍ من ذلك في بابه‏.‏

أقارب

انظر‏:‏ قرابةٌ

إقالةٌ

التعريف

1 - الإقالة في اللّغة‏:‏ الرّفع والإزالة، ومن ذلك قولهم‏:‏ أقال اللّه عثرته إذا رفعه من سقوطه‏.‏ ومنه الإقالة في البيع، لأنّها رفع العقد‏.‏

وهي في اصطلاح الفقهاء‏:‏ رفع العقد، وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطّرفين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - البيع ‏:‏

2 - تختلف الإقالة عن البيع في أمورٍ منها‏:‏

أنّهم اختلفوا في الإقالة، فقال بعضهم‏:‏ إنّها فسخٌ، وقال آخرون‏:‏ هي بيعٌ، وهناك أقوالٌ أخرى سيأتي تفصيلها‏.‏

ومنها أنّ الإقالة يمكن أن يقع فيها الإيجاب بلفظ الاستقبال كقول أحدهما‏:‏ أقلني، بخلاف البيع فإنّه لا يقع إلاّ بلفظ الماضي، لأنّ لفظة الاستقبال للمساومة حقيقةً، والمساومة في البيع معتادةٌ، فكانت اللّفظة محمولةً على حقيقتها، فلم تقع إيجاباً، بخلاف الإقالة، لأنّ المساومة فيها ليست معتادةً، فيحمل اللّفظ فيها على الإيجاب‏.‏

ب - الفسخ ‏:‏

3 - تختلف الإقالة عن الفسخ في أنّ الفسخ هو رفع جميع أحكام العقد وآثاره واعتباره كأن لم يكن بالنّسبة للمستقبل‏.‏ وأمّا الإقالة فقد اعتبرها بعضهم فسخاً، واعتبرها آخرون بيعاً‏.‏

حكم الإقالة التّكليفيّ

4 - الإقالة دائرةٌ بين النّدب والوجوب بحسب حالة العقد، فإنّها تكون مندوباً إليها إذا ندم أحد الطّرفين، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ «من أقال مسلماً بيعته أقال اللّه عثرته»‏.‏ وقد دلّ الحديث على مشروعيّة الإقالة، وعلى أنّها مندوبٌ إليها، لوعد المقيلين بالثّواب يوم القيامة‏.‏

وأمّا كون المقال مسلماً فليس بشرطٍ، وإنّما ذكره لكونه حكماً أغلبيّاً، وإلاّ فثواب الإقالة ثابتٌ في إقالة غير المسلم، وقد ورد بلفظ‏:‏ «من أقال نادماً‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

وتكون الإقالة واجبةً إذا كانت بعد عقدٍ مكروهٍ أو بيعٍ فاسدٍ، لأنّه إذا وقع البيع فاسداً أو مكروهاً وجب على كلٍّ من المتعاقدين الرّجوع إلى ما كان له من رأس المال صوناً لهما عن المحظور، لأنّ رفع المعصية واجبٌ بقدر الإمكان، ويكون ذلك بالإقالة أو بالفسخ‏.‏

كما ينبغي أن تكون الإقالة واجبةً إذا كان البائع غارّاً للمشتري وكان الغبن يسيراً، وإنّما قيّد الغبن باليسير هنا، لأنّ الغبن الفاحش يوجب الرّدّ إن غرّه البائع على الصّحيح‏.‏

ركن الإقالة

5 - ركن الإقالة الإيجاب والقبول الدّالاّن عليها‏.‏ فإذا وجد الإيجاب من أحدهما والقبول من الآخر بلفظٍ يدلّ عليه فقد تمّ الرّكن، وهي تتوقّف على القبول في المجلس، نصّاً بالقول أو دلالةً بالفعل‏.‏ ويأتي القبول من الآخر بعد الإيجاب، أو تقدّم السّؤال، أو قبض الآخر ما هو له في مجلس الإقالة أو مجلس علمها، لأنّ مجلس العلم في حقّ الغائب كمجلس اللّفظ في الحاضر، فلا يصحّ من الحاضر في غير مجلسها‏.‏

الألفاظ الّتي تنعقد بها الإقالة

6 - لا خلاف في أنّ الإقالة تنعقد صحيحةً بلفظ الإقالة أو ما يدلّ عليها، كما لا خلاف في أنّها تنعقد بلفظين يعبّر بهما عن الماضي‏.‏

ولكنّ الخلاف في صيغة اللّفظ الّذي تنعقد به إذا كان أحدهما ماضياً والآخر مستقبلاً‏.‏ فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّها تصحّ بلفظين أحدهما مستقبلٌ والآخر ماضٍ، كما لو قال‏:‏ أقلني‏:‏ فقال، أقلتك، أو قال له‏:‏ جئتك لتقيلني، فقال‏:‏ أقلتك، فهي تنعقد عندهما بهذين اللّفظين كما ينعقد النّكاح‏.‏ ومع أنّ الإقالة بيعٌ عند أبي يوسف، فإنّه لم يعط الإقالة حكمه، لأنّ المساومة لا تجري في الإقالة، فحمل اللّفظ على التّحقيق بخلاف البيع‏.‏

وأمّا محمّدٌ فهو يقول‏:‏ إنّها لا تنعقد إلاّ بلفظين يعبّر بهما عن الماضي، لأنّها كالبيع فأعطيت بسبب الشّبه حكم البيع، وذلك بأن يقول أحدهما‏:‏ أقلت، والآخر‏:‏ قبلت، أو رضيت، أو هويت، أو نحو ذلك‏.‏

وتنعقد بفاسختك وتاركت، كما تصحّ بلفظ ‏"‏ المصالحة ‏"‏ وتصحّ بلفظ ‏"‏ البيع ‏"‏ وما يدلّ على المعاطاة، لأنّ المقصود المعنى، وكلّ ما يتوصّل إليه أجزأ‏.‏ خلافاً للقاضي من الحنابلة في أنّ ما يصلح للعقد لا يصلح للحلّ، وما يصلح للحلّ لا يصلح للعقد‏.‏ وتنعقد الإقالة بالتّعاطي كالبيع، كما لو قال له‏:‏ أقلتك فردّ إليه الثّمن، وتصحّ بالكتابة والإشارة من الأخرس‏.‏

شروط الإقالة

7 - يشترط لصحّة الإقالة ما يلي‏:‏

أ - رضى المتقايلين‏:‏ لأنّها رفع عقدٍ لازمٍ، فلا بدّ من رضى الطّرفين‏.‏

ب - اتّحاد المجلس‏:‏ لأنّ معنى البيع موجودٌ فيها، فيشترط لها المجلس، كما يشترط للبيع‏.‏

ج - أن يكون التّصرّف قابلاً للنّسخ كالبيع والإجارة، فإن كان التّصرّف لا يقبل الفسخ كالنّكاح والطّلاق فلا تصحّ الإقالة‏.‏

د - بقاء المحلّ وقت الإقالة، فإن كان هالكاً وقت الإقالة لم تصحّ، فأمّا قيام الثّمن وقت الإقالة فليس بشرطٍ‏.‏

هـ - تقابض بدلي الصّرف في إقالة الصّرف، وهذا على قول من يقول‏:‏ إنّها بيعٌ، لأنّ قبض البدلين إنّما وجب حقّاً للّه تعالى، وهذا الحقّ لا يسقط بإسقاط العبد‏.‏

و - ألاّ يكون البيع بأكثر من ثمن المثل في بيع الوصيّ، فإن كان لم تصحّ إقالته‏.‏

حقيقتها الشّرعيّة

8 - للفقهاء في تكييف الإقالة اتّجاهاتٌ‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّها فسخٌ ينحلّ به العقد في حقّ العاقدين وغيرهما، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن‏.‏ وجه هذا القول أنّ الإقالة في اللّغة عبارةٌ عن الرّفع، يقال في الدّعاء‏:‏ «اللّهمّ أقلني عثراتي»، أي ارفعها، والأصل أنّ معنى التّصرّف شرعاً ما ينبئ عنه اللّفظ لغةً، ورفع العقد فسخه، ولأنّ البيع والإقالة اختلفا اسماً، فتخالفا حكماً، فإذا كانت رفعاً لا تكون بيعاً، لأنّ البيع إثباتٌ والرّفع نفيٌ، وبينهما تنافٍ، فكانت الإقالة على هذا التّقدير فسخاً محضاً، فتظهر في حقّ كافّة النّاس‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّها بيعٌ في حقّ العاقدين وغيرهما، إلاّ إذا تعذّر جعلها بيعاً فإنّها تكون فسخاً، وهذا قول أبي يوسف والإمام مالكٍ‏.‏ ومن أمثلة ذلك أن تقع الإقالة في الطّعام قبل قبضه‏.‏ وجه هذا القول أنّ معنى البيع هو مبادلة المال بالمال، وهو أخذ بدلٍ وإعطاء بدلٍ، وقد وجد، فكانت الإقالة بيعاً لوجود معنى البيع فيها، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني‏.‏

الثّالث‏:‏ أنّها فسخٌ في حقّ العاقدين بيعٌ في حقّ غيرهما، وهو قول أبي حنيفة‏.‏

وجه هذا القول أنّ الإقالة تنبئ عن الفسخ والإزالة، فلا تحتمل معنًى آخر نفياً للاشتراك، والأصل العمل بحقيقة اللّفظ، وإنّما جعل بيعاً في حقّ غير العاقدين، لأنّ فيها نقل ملكٍ بإيجابٍ وقبولٍ بعوضٍ ماليٍّ، فجعلت بيعاً في حقّ غير العاقدين محافظةً على حقّه من الإسقاط، إذ لا يملك العاقدان إسقاط حقّ غيرهما‏.‏

آثار اختلاف الفقهاء في حقيقة الإقالة

يترتّب على اختلاف الفقهاء في حقيقة الإقالة آثارٌ في التّطبيق في أحوالٍ كثيرةٍ منها ما يلي‏:‏ أوّلاً - الإقالة بأقلّ أو أكثر من الثّمن

9 - إذا تقايل المتبايعان ولم يسمّيا الثّمن الأوّل، أو سمّيا زيادةً على الثّمن الأوّل، أو سمّيا جنساً آخر سوى الجنس الأوّل، قلّ أو كثر، أو أجّلا الثّمن الأوّل، فالإقالة على الثّمن الأوّل، وتسمية الزّيادة والأجل والجنس الآخر باطلةٌ على القول بأنّ الإقالة فسخٌ، سواءٌ أكانت الإقالة قبل القبض أو بعده، وسواءٌ أكان المبيع منقولاً أم غير منقولٍ، لأنّ الفسخ رفع العقد الأوّل، والعقد وقع بالثّمن الأوّل، فيكون فسخه بالثّمن الأوّل، وحكم الفسخ لا يختلف بين ما قبل القبض وما بعده، وبين المنقول وغير المنقول، وتبطل تسمية الزّيادة والنّقصان والجنس الآخر والأجل، وتبقى الإقالة صحيحةً، لأنّ تسمية هذه الأشياء لا تؤثّر في الإقالة، ولأنّ الإقالة رفع ما كان لا رفع ما لم يكن، حيث إنّ رفع ما لم يكن ثابتاً محالٌ‏.‏

وتكون الإقالة أيضاً بمثل الثّمن الأوّل المسمّى، لا بما يدفع بدلاً عنه، حتّى لو كان عشرة دنانير فدفع إليه دراهم عوضاً عنها، ثمّ تقايلا - وقد رخّصت الدّنانير - رجع بالدّنانير لا بما دفع، لأنّه لمّا اعتبرت الإقالة فسخاً، والفسخ يردّ على عين ما يردّ عليه العقد، كان اشتراط خلاف الثّمن الأوّل باطلاً‏.‏

ثانياً - الشّفعة فيما يردّ بالإقالة

10 - يقتضي القياس ألاّ يكون للشّفيع حقّ الشّفعة فيما ردّ بالإقالة إذا اعتبرت هذه الإقالة فسخاً مطلقاً، وهذا قياسٌ على أصل محمّدٍ وزفر من الحنفيّة، لأنّ الإقالة عند محمّدٍ فسخٌ، إلاّ إذا لم يمكن جعلها فسخاً فتجعل بيعاً‏.‏ وعن زفر‏:‏ هي فسخٌ في حقّ النّاس كافّةً‏.‏

أمّا سائر الحنفيّة، وكذلك بقيّة المذاهب الأخرى، فإنّها تعطي الشّفيع حقّ الشّفعة فيما ردّ بالإقالة‏.‏ فعلى اعتبار أنّها فسخٌ في حقّ العاقدين بيعٌ في حقٍّ ثالثٍ، كما هو عند أبي حنيفة، أو على اعتبار أنّها بيعٌ في حقّهما، كما هو عند أبي يوسف، فإنّ الشّفيع يأخذ بالشّفعة بعد تقايل البيع بين البائع والمشتري، فمن اشترى داراً ولها شفيعٌ، فسلّم الشّفعة، ثمّ تقايلا البيع، أو اشتراها ولم يكن بجنبها دارٌ، ثمّ بنيت بجنبها دارٌ، ثمّ تقايلا البيع، فإنّ الشّفيع يأخذها بالشّفعة‏.‏ وعلى أصل أبي حنيفة تكون الإقالة بيعاً في حقّ غير العاقدين، والشّفيع غيرهما، فتكون بيعاً في حقّه فيستحقّ‏.‏ وعلى أصل أبي يوسف تعدّ الإقالة بيعاً جديداً في حقّ الكلّ، ولا مانع من جعلها بيعاً في حقّ الشّفيع، ولهذا الشّفيع الأخذ بالشّفعة، إن شاء بالبيع الأوّل، وإن شاء بالبيع الحاصل بالإقالة، أو بمعنًى آخر من أيّهما شاء‏:‏ من المشتري لأجل الشّراء، أو من البائع لشرائه من المشتري بالإقالة، حيث تكون الإقالة بيعاً من المشتري للبائع، وحيث تكون فسخ بيعٍ فتؤخذ من المشتري فقط، ولا يتمّ فسخه إلاّ إن رضي الشّفيع لأنّ الشّراء له‏.‏

إقالة الوكيل

11 - من ملك البيع ملك الإقالة، فصحّت إقالة الموكّل بيع وكيله، وتصحّ إقالة الوكيل بالبيع إذا تمّت قبل قبض الثّمن‏.‏ فإن أقال بعد قبضه يضمن الثّمن للموكّل، إذ تعتبر الإقالة من الوكيل حينئذٍ شراءً لنفسه‏.‏ وبإقالة الوكيل بالبيع يسقط الثّمن عن المشتري عند أبي حنيفة ومحمّدٍ، ويلزم المبيع الوكيل‏.‏ وعند أبي يوسف لا يسقط الثّمن عن المشتري أصلاً‏.‏ وتجوز الإقالة من الوكيل بالسّلم في قول أبي حنيفة ومحمّدٍ كالإبراء، خلافاً لأبي يوسف‏.‏ والمراد بإقالة الوكيل بالسّلم‏:‏ الوكيل بشراء السّلم، بخلاف الوكيل بشراء العين‏.‏

وإقالة الوكيل بالشّراء لا تجوز بإجماع الحنفيّة بخلاف الوكيل بالبيع، وعند مالكٍ لا تجوز إقالة الوكيل بالبيع مطلقاً‏.‏

واتّفق الشّافعيّة والحنابلة على صحّة التّوكيل في حقّ كلّ آدميٍّ من العقود والفسوخ‏.‏ وعلى هذا فيصحّ التّوكيل بالإقالة عندهم ابتداءً، سواءٌ أقلنا‏:‏ إنّ الإقالة فسخٌ على المذهب عندهم جميعاً أم بيعٌ‏.‏ هذا، ولم يذكر الشّافعيّة والحنابلة من له حقّ الإقالة من غير المتعاقدين سوى الورثة على الصّحيح من المذهبين‏.‏

أمّا حكم الإقالة الصّادرة من الوكيل بالبيع والوكيل بالشّراء فلم يتطرّقوا له‏.‏ والمتولّي على الوقف إذا اشترى شيئاً بأقلّ من قيمته فإنّ إقالته لا تصحّ‏.‏

محلّ الإقالة

12 - محلّ الإقالة العقود اللاّزمة في حقّ الطّرفين ممّا يقبل الفسخ بالخيار، لأنّ هذه العقود لا يمكن فسخها إلاّ باتّفاق الطّرفين المتعاقدين، وعلى ذلك فإنّ الإقالة تصحّ في العقود الآتية‏:‏ البيع - المضاربة - الشّركة - الإجارة - الرّهن ‏(‏بالنّسبة للرّاهن فهي موقوفةٌ على إجازة المرتهن أو قضاء الرّاهن دينه‏)‏ - السّلم - الصّلح‏.‏

وأمّا العقود الّتي لا تصحّ فيها الإقالة فهي العقود غير اللاّزمة، كالإعارة والوصيّة والجعالة، أو العقود اللاّزمة الّتي لا تقبل الفسخ بالخيار، مثل الوقف والنّكاح حيث لا يجوز فسخ أحدهما بالخيار‏.‏

أثر الشّروط الفاسدة في الإقالة

13 - إذا اعتبرنا الإقالة فسخاً، فإنّها لا تبطل بالشّروط الفاسدة، بل تكون هذه الشّروط لغواً، وتصحّ الإقالة‏.‏ ففي الإقالة في البيع، إذا شرط أكثر ممّا دفع، فالإقالة على الثّمن الأوّل، لمتعذّر الفسخ على الزّيادة، وتبطل الشّرط، لأنّه يشبه الرّبا، وفيه نفعٌ لأحد المتعاقدين مستحقٌّ بعقد المعاوضة خالٍ عن العوض‏.‏

وكذا إذا شرط أقلّ من الثّمن الأوّل، لتعذّر الفسخ على الأقلّ، لأنّ فسخ العقد عبارةٌ عن رفعه على الوصف الّذي كان قبله، والفسخ على الأقلّ ليس كذلك، لأنّ فيه رفع ما لم يكن ثابتاً وهو محالٌ‏.‏ والنّقصان لم يكن ثابتاً فرفعه يكون محالاً، إلاّ أن يحدث في المبيع عيبٌ فتجوز الإقالة بالأقلّ، لأنّ الحطّ يجعل بإزاء ما فات من العيب‏.‏

وهذا على قياس قول أبي حنيفة ومحمّدٍ وغيرهما ممّن يرون الإقالة فسخاً، وأمّا على قياس قول من قال‏:‏ إنّ الإقالة بيعٌ، فإنّها تبطل بالشّروط الفاسدة، لأنّ البيع يبطل بالشّروط الفاسدة، فإذا زاد كان قاصداً بهذا ابتداء البيع، وإذا شرط الأقلّ فكذلك‏.‏

الإقالة في الصّرف

14 - الإقالة في الصّرف كالإقالة في البيع، أي يشترط فيها التّقابض من الجانبين قبل الافتراق كما في ابتداء عقد الصّرف‏.‏

فلو تقايلا الصّرف، وتقابضا قبل الافتراق، مضت الإقالة على الصّحّة‏.‏ وإن افترقا قبل التّقابض بطلت الإقالة، سواءٌ اعتبرت بيعاً أم فسخاً‏.‏

فعلى اعتبارها بيعاً كانت المصارفة مبتدأةً، فلا بدّ من التّقابض يداً بيدٍ، ما دامت الإقالة بيعاً مستقلاًّ يحلّها ما يحلّ البيوع، ويحرّمها ما يحرّم البيوع، فلا تصلح الإقالة إذ حصل الافتراق قبل القبض‏.‏وعلى اعتبارها فسخاً في حقّ المتعاقدين، فهي بيعٌ جديدٌ في حقٍّ ثالثٍ، واستحقاق القبض حقٌّ للشّرع، وهو هنا ثالثٌ، فيعتبر بيعاً جديداً في حقّ هذا الحكم فيشترط فيه التّقابض‏.‏ وهلاك البدلين في الصّرف لا يعدّ مانعاً من الإقالة، لأنّه في الصّرف لا يلزمه ردّ المقبوض بعد الإقالة، بل ردّه أو ردّ مثله، فلم تتعلّق الإقالة بعينهما، فلا تبطل بهلاكهما‏.‏

إقالة الإقالة

15 - إقالة الإقالة إلغاءٌ لها والعودة إلى أصل العقد، وهي تصحّ في أحوالٍ معيّنةٍ، فلو تقايلا البيع، ثمّ تقايلا الإقالة، ارتفعت الإقالة وعاد البيع‏.‏ وقد استثنى العلماء من إقالة الإقالة إقالة المسلم قبل قبض المسلم فيه، فإنّها لا تصحّ، لأنّ المسلم فيه دينٌ وقد سقط بالإقالة الأولى، فلو انفسخت لعاد المسلم فيه الّذي سقط، والسّاقط لا يعود‏.‏

ما يبطل الإقالة

16 - من الأحوال الّتي تبطل فيها الإقالة بعد وجودها ما يأتي‏:‏

أ - هلاك المبيع‏:‏ فلو هلك المبيع بعد الإقالة وقبل التّسليم بطلت، لأنّ من شرطها بقاء المبيع، لأنّها رفع العقد وهو محلّه، بخلاف هلاك الثّمن فإنّه لا يمنع الإقالة لكونه ليس بمحلّ العقد، ولذا بطل البيع بهلاك البيع قبل القبض دون الثّمن‏.‏

وهذا إذا لم يكن الثّمن قيميّاً، فإن كان قيميّاً فهلك بطلت الإقالة‏.‏

ولكن لا يردّ على اشترط قيام المبيع لصحّة الإقالة إقالة السّلم قبل قبض المسلم فيه، لأنّها صحيحةٌ سواءٌ أكان رأس المال عيناً أم ديناً، وسواءٌ أكان قائماً في يد المسلم إليه أم هالكاً‏.‏ لأنّ المسلم فيه وإن كان ديناً حقيقةً فله حكم العين حتّى لا يجوز الاستبدال به قبل قبضه‏.‏

ب - تغيّر المبيع‏:‏ كأن زاد المبيع زيادةً منفصلةً متولّدةً، كما لو ولدت الدّابّة بعد الإقالة، فإنّها تبطل بذلك، وكذلك الزّيادة المتّصلة غير المتولّدة كصبغ الثّوب‏.‏ وعند المالكيّة تبطل الإقالة بتغيّر ذات المبيع مهما كان‏.‏ كتغيّر الدّابّة بالسّمن والهزال، بخلاف الحنابلة‏.‏

اختلاف المتقايلين

17 - قد يقع الاختلاف بين المتقايلين على صحّة البيع، أو على كيفيّته، أو على الثّمن، أو على الإقالة من أساسها‏.‏ فإنّهما إذا اتّفقا على صحّة البيع، ثمّ اختلفا في كيفيّته تحالفا، فيحلف كلٌّ على نفي قول صاحبه وإثبات قوله‏.‏

ويستثنى من التّحالف ما لو تقايلا العقد ثمّ اختلفا في قدر الثّمن فلا تحالف، بل القول قول البائع لأنّه غارمٌ‏.‏ ولو اختلف البائع والمشتري، فقال المشتري‏:‏ بعته من البائع بأقلّ من الثّمن الأوّل قبل نقده وفسد البيع بذلك، وقال البائع‏:‏ بل تقايلناه، فالقول للمشتري مع يمينه في إنكاره الإقالة‏.‏

فإن كان البائع هو الّذي يدّعي أنّه اشتراه من المشتري بأقلّ ممّا باعه، والمشتري يدّعي الإقالة يحلف كلٌّ على دعوى صاحبه‏.‏

نهاية الجزء الخامس/ الموسوعة الفقهية